اخر الاخبارمقالات وقضاياهام

رائحة المعسّل في زقاق البلاط : غيمة فوق تلة البورجوازية القديمة

الأنباء الكويتية : جويل رياشي-
لم تسلم منطقة زقاق البلاط من انفجار 4 اغسطس، ولكنها بعد سبعة اشهر، بدت وكأنها متعافية، لعل عدم احتوائها على مبان شاهقة ذات واجهات زجاجية هو ما نجاها من هول الكارثة رغم كونها مطلة على مرفأ بيروت.
 
خلف الدكاكين الصغيرة التي تضم في واجهاتها منصات لتقديم القهوة السريعة «إكسبرس» ومشتقاتها، تفوح رائحة معسل النراجيل، وفي داخل تلك الدكاكين، عالم آخر، حيث يجلس هواة «الشيشة» أو النارجيلة، أفرادا وجماعات، وكأن الكورونا لم تمر في تلك المنطقة التي اكتسبت اسمها وشهرتها عند قيام الدولة العثمانية من رصف أزقتها بالبلاط.
 
الأرصفة احتفظت بحجارتها السوداء وتلك القديمة، وهي تزنر عددا لا بأس به من الأبنية القديمة، وغالبيتها مهجور، واحتفظت مبان أخرى برونقها، فاستحقت وضع لافتة في الجهة المؤدية نزولا إلى مدرسة ليسيه عبدالقادر، عليها عبارة «حي ذو طابع تراثي».
 
زقاق البلاط يطغى عليه اسم المنزل الوالدي لسفيرة لبنان والوطن العربي إلى النجوم السيدة فيروز، حيث كانت تنشد الأغاني هنا في المطبخ مستمعة إلى راديو الجيران.
 
ويصف أحد أصحاب الدكاكين منطقة زقاق البلاط بـ «التلة البورجوازية في مقابل تلة السراسقة (عائلة سرسق) في منطقة الأشرفية». ويغوص في حكاية البيوت القديمة خارج باب السراي أحد أبواب بيروت التابعة للسلطنة العثمانية، وسكن مجموعات من العائلات الأرستقراطية فيها، بتركيبة ديموغرافية من الموازييك اللبناني.
 
ويتناول جاره الثمانيني الجالس على حافة الرصيف طبيعة المنطقة ونشوئها فيقول «انها أقرب إلى رأس بيروت، إلا ان الأخيرة توسعت وكبرت جراء قيام مبنى الجامعة الأميركية فيها، وهي بطبيعة الحال مختلفة عن منطقة المصيطبة.
 
ويجاورها من جهة الشرق خندق الغميق التي سكنها اليهود حيث كانت تعرف بمنطقة الأموال وصولا إلى وادي أبو جميل».
 
ويستدرك متناولا التغيير الديموغرافي للمنطقة، حيث باتت الغالبية من السكان من أبناء الجنوب، مشيرا إلى موقع المنطقة الحساس في الحرب الأهلية اللبنانية، وتبادل مجموعات السيطرة عليها.
 
في جولة راجلة في الحي لا تشبع العين من أبنية قديمة ومؤسسات نشأت في زقاق البلاط أبرزها الإرسالية الأميركية التي أسست هناك أولى مدارسها ومطبعتها، كما تم بناء الكنيسة الإنجيلية عام 1862 الشهيرة ببرج جرسها الذي حوى أول ساعة في بيروت، وعرفت بـ «ساعة الأميركان»، ثم أسس المعلم بطرس البستاني مدرسة وطنية غير تابعة للبعثات التبشيرية الغربية.

 
وعام 1860 تأسست «المدرسة السورية البريطانية» التي أصبحت فيما بعد «ثانوية الحريري الثانية»، ثم تأسست «المدرسة البطريركية»، والتي تعرف بـ «البطريركية»، في أعلى التل المشرف على زقاق البلاط.
 
في عام 1928 نقلت المدرسة الفرنسية «الليسيه» إلى المنطقة. كما أسس عارف نكد المدرسة المعنية، لتكون أول مدرسة تابعة للطائفة الدرزية في بيروت.
 
وفي المنطقة منزلي رئيس الاستقلال بشارة الخوري وآل زيادة ومبنى آل هبري إلى قصري آل حنيني وفرعون.
 
هدوء المنطقة في يوم الأحد، يتحول صخبا في بحر الأسبوع حيث تعتبر المنطقة شريان عبور إلى مناطق عدة في بيروت أبرزها سوق مار الياس التجاري، ومدافن الباشورة، ومنطقة البسطة ودار المصيطبة.
 
المباني القديمة صامدة، وكذلك المعالم التي دمغت بيروت بنسختها الجديدة بعد الخروج من أسوار المدينة القديمة.
 
وتقول الصحافية المتخصصة في شؤون التراث مي ابي عقل ان «منطقة زقاق البلاط منطقة تراثية بامتياز وقد صنفتها وزارة الثقافة في العام 1997 منطقة ذات طابع تراثي راصدة فيها 40 معلما تراثيا ابرزها قصر فرعون وقصرا زيادة وحنينة وبيت فيروز وقصر فرج الله الذي يضم اليوم المعهد الالماني للابحاث الشرقية».
 
واشارت ابي عقل إلى ارستقراطية المنطقة «التي كانت تسكنها النخب من اهل السياسة والادب، حيث القصور الغنية بزخرفتها وحدائقها وحيث كانت تقام الصالونات الادبية والحفلات والسهرات».
 
تختزن زقاق البلاط حكايات الماضي الجميل، الذي سبق «نكبة الحرب الأهلية»: حداثة وعراقة وتاريخ وطبقية تنحسر لمصلحة أحياء يقطنها عامة الناس، لتصبح المنطقة مزيجا بين الطبقتين الغنية والشعبية.
 
رائحة المعسل أقوى في زقاق البلاط، لكنها لا تكسر السكون الذي يخفي كما في داخل الدكاكين ـ القهاوي حكايات من الواقع البيروتي واللبناني.

الأنباء

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى