فنزويلا في «زمن الوحوش»: الأمن القومي غطاءً للبلطجة

لينا بعلبكي
لم تتأخّر الطموحات الإمبريالية للولايات المتحدة، التي تأسّست عام 1776 عقب حروب الإبادة ضدّ السكان الأصليين، في الظهور، متجلّيةً خصوصاً في «عقيدة مونرو» التي حملت اسم الرئيس الخامس للبلاد، جيمس مونرو، وقضت بأن تُعتبر الأميركيتان مجال نفوذ حصري لواشنطن، مع تحذير القوى الأوروبية من أي تدخّل في نصف الكرة الغربي. وقد أصرّ مهندس هذه العقيدة، وزير الخارجية وقتذاك، جون كوينسي آدامز، على أن تتحرك أميركا منفردة في هذا النصف من العالم بدلاً من أن تكون مجرد «قارب صغير يتبع السفينة الحربية البريطانية». هكذا، وضعت اللّبنات الأولى لمسار طويل من محاولات الهيمنة السياسية والعسكرية على أميركا اللاتينية، سرعان ما تُرجم بانقلابات واحتلالات وتدخّلات مباشرة وغير مباشرة امتدّت على مدار قرنين، ليُشاع وصف المنطقة بأنها «الفناء الخلفي» للولايات المتحدة، مع ما يعنيه ذلك من تعامل شبه ملكي مع الجيران الجنوبيين.
مع نهاية القرن التاسع عشر، تحوّلت «عقيدة مونرو» إلى تفويض بالتدخّل المباشر في دولها؛ إذ أصدر الرئيس ثيودور روزفلت، في عام 1904، ما عُرف بـ«التفسير الروزفلتي» لتلك العقيدة، والذي أعلن فيه حق الولايات المتحدة ومسؤوليتها عن العمل كـ«شرطة دولية» في نصف الكرة الغربي. وبرّر روزفلت هذا الحق المزعوم بـ«ضرورة» كبح أي «سوء سلوك مزمن» في دول أميركا اللاتينية – مثل الفوضى أو التخلّف عن سداد الديون -. ولم يمضِ وقت طويل على ذلك حتى بدأت حقبة من التدخّلات العسكرية المباشرة، من مثل إنزال قوات المارينز في جمهورية الدومينيكان وهايتي ونيكاراغوا وغيرها في أثناء العقدين التاليين، في ما عُرف لاحقاً بـ«حروب الموز» التي هدفت إلى حماية مصالح الشركات الأميركية (مثل يونايتد فروت)، وضمان سيطرة واشنطن على الموارد الاقتصادية والسياسات المحلّية لتلك الدول. ورغم أنّ الإدارات الأميركية اللاحقة، حاولت شكلياً، تخفيف حدّة هذا النهج، عبر ما سمّي سياسة «حسن الجوار»، بقيت هذه العقيدة حاضرة كخلفية ناظمة للسلوك العدواني الأميركي، لتعود إلى الواجهة بقوة في أثناء الحرب الباردة، باعتبارها أساساً إيديولوجياً وعملياً لتبرير التدخّلات الأميركية، التي تلطّت وقتذاك خلف ذريعة منع «تمدّد النفوذ السوفياتي» في نصف الكرة الغربي. فبعدما وجدت الولايات المتحدة نفسها، إثر الحرب العالمية الثانية، في مشهد ثنائي القطبية محتدم مع الاتحاد السوفياتي، قرّرت اعتبار أي حضور شيوعي أو موالٍ للسوفيات في أي دولة لاتينية «خرقاً» لـ«مونرو»، «يستوجب الردّ»، لتكرّس بذلك عودة الهيمنة الاستعمارية بشكل جديد، بذريعة «مكافحة الشيوعية». وبهذا، أصبحت «عقيدة مونرو» مرادفاً لـ«عقيدة ترومان» في أوروبا (سدّ الانتشار الشيوعي)؛ وعلى أساسها دعمت واشنطن سلسلة من الانقلابات والتدخّلات السرّية والعلنية، بدءاً من محاولة غزو كوبا في خليج الخنازير (1961) وأزمة الصواريخ الكوبية (1962)، وصولاً إلى تدبير انقلابات ضدّ حكومات يسارية منتخبة كما في تشيلي 1973.
إحياء «عقيدة مونرو» بهذا الأسلوب الفجّ ما هي إلا مظهر من مظاهر «زمن الوحوش»
مع تفكّك الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات، تراجعت مركزية أميركا اللاتينية في الاستراتيجية الأميركية لصالح مناطق أخرى. إذ دخلت الولايات المتحدة حقبة القطب الواحد، منشغلةً بإشعال الحروب في الشرق الأوسط وتوسيع «الناتو» شرقاً، فيما دخلت العديد من دول أميركا الجنوبية مساراً يعدّ نسبياً أكثر استقلالية، وذلك عبر تحالفات إقليمية من مثل «أوناسور» و«ألبا». ورغم إعلان وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، عام 2013، أنّ «عصر عقيدة مونرو قد انتهى»، لم يصمد هذا الإعلان طويلاً أمام التحوّلات اللاحقة؛ إذ أعادت إدارة دونالد ترامب، أخيراً، إحياء هذه العقيدة بصيغة أكثر فجاجة، في ما يمكن وصفه بـ«الإضافة الترامبية» على «مونرو»، لتتحوّل مساعي الهيمنة الأميركية على الجيران الجنوبيين إلى هدف مُعلن تحت ذرائع أمنية فضفاضة. فإنّ «استراتيجية الأمن القومي» الأميركية لعام 2025، عدّت ما سُمّي «قرينة ترامب لعقيدة مونرو» استجابة «واقعية وضرورية» لتحدّيات المرحلة، فيما لم تُخفِ الاستعداد لاستخدام القوة الفتّاكة «عند الحاجة».
ويأتي ذلك بعدما وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام مشهد عالمي جديد يتمثّل في صعود قوى دولية منافسة، على رأسها روسيا والصين، التي بلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين دول أميركا اللاتينية في عام 2024، أكثر من 518 مليار دولار. وبناء عليه، تسعى العقيدة الترامبية الجديدة إلى منع أي «تغلغل أجنبي معادٍ أو امتلاك أصول استراتيجية» في نصف الكرة الغربي، وفرض «فيتو» على مشاريع البنية التحتية والاستثمارات الخارجية التي لا تمرّ عبر بوابة واشنطن، توازياً مع بناء تحالفات انتقائية تضمّ أنظمة متّسقةً سياساتها وسياسات الولايات المتحدة، وعزل الحكومات التي ترفض الانخراط في هذا المسار ومعاقبتها.
في هذا السياق، تبرز فنزويلا بوصفها الساحة الأكثر وضوحاً لاختبار «الإضافة الترامبية»؛ إذ تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي مؤكّد في العالم (نحو 303 مليار برميل)، ما يجعلها جائزة استراتيجية تسيل لعاب واشنطن. ومنذ الولاية الأولى لترامب، شكّلت كاراكاس هدفاً مركزياً لمحاولات تغيير النظام، التي تنوّعت ما بين العقوبات الخانقة والدعم العلني للمعارضة. ومع فشل الرهان الأميركي على تنصيب خوان غوايدو رئيساً، انتقل ترامب، في ولايته الثانية، إلى تصعيد ترافق مع تهديدات عسكرية مباشرة، وحشود بحرية في الكاريبي، واستعراض قوة غير مسبوق، وذلك تحت عناوين «مكافحة المخدرات» و«الهجرة غير النظامية» و«حماية سلاسل الإمداد الحيوية»، وصولاً إلى فرض حصار خانق على فنزويلا وشلّ صادراتها النفطية، والسطو المباشر عليها.
والجدير ذكره، هنا، أنّ «مشروع 2025» الصادر عن مؤسسة «التراث» الأميركية، والذي يبدو أنه ألهم ترامب، يقرّ بأنّ السيطرة المطلقة على موارد الطاقة في نصف الكرة الغربي، هي ضرورة وجودية لقطع الطريق على الصين وروسيا. ومن أجل شرعنة هذه السيطرة، صنّفت الولايات المتحدة حكومة فنزويلا وشركتها النفطية ضمن قوائم «الإرهاب»، ما حوّل النفط الفنزويلي قانونياً إلى «أصل غير مشروع» يمكن مصادرته.
وعلى أي حال، تعيد الحقبة الحالية إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة. وكما كان التحدي آنذاك هو الاتحاد السوفياتي مع حلفائه، يتمثّل هذا التحدي اليوم بالصين (وروسيا بدرجة أقلّ) التي تمدّ جسوراً اقتصادية وسياسية متينة مع دول أميركا الجنوبية. حتى إنّ الخطاب الأميركي يكرّر المفردات ذاتها، فبدل «الخطر الشيوعي» بات الحديث عن «الخطر الصيني».
غير أنّ إعادة إحياء «عقيدة مونرو» بهذا الأسلوب الفجّ، قد لا تكون إلا مظهراً من مظاهر «زمن الوحوش» الذي تحدّث عنه المفكّر الإيطالي، أنطونيو غرامشي، حين وصف مدد الانتقال التاريخي بقوله إنّ «القديم يحتضر، والعالم الجديد يكافح ليولد… والآن هو زمن الوحوش». وإذ يزداد العالم اليوم تعدّدية وتعقيداً، فإنّ من شأن ذلك أن يجعل مسار التوحّش «الترامبي» محفوفاً بالمخاطر، التي قد تصل إلى حدّ استنزاف الولايات المتحدة في «فنائها»، وربما انفلات زمام هذا الفناء من يديها.
الاخبار



