ما بعد “صفر مشاكل”: كيف تتحرك أنقرة بعدما أصبحت إسرائيل على حدودها؟

محمد علوش
لم تعد تركيا قادرة على التصرّف كقوة إقليمية تعيش على هامش الزلازل الجيوسياسية التي تضرب الشرق الأوسط. فإسرائيل، التي نجحت خلال السنوات الماضية في نقل صراعها من كونه أمنيا محصورا إلى عسكري مفتوح يتخطى كل حدود، باتت تمسّ الأمن القومي التركي مباشرة، فكيف ستتصرف تركيا؟.
تتفاعل الأحداث في المنطقة، وتجد تركيا نفسها في خطر خسارة المكانة، وتعرض أمنها القومي للخطر بسبب الوجود الاسرائيلي في سوريا، لذلك انفتحت بشكل أكبر على العلاقات مع الدول المركزية كإيران والسعودية، ولا شك أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المرتقبة إلى طهران تشكل جزءا من محاولة تركية لإعادة ترتيب ميزان الردع في الإقليم، بعدما اكتشفت أن سياسة “صفر مشاكل” لم تُنتج صفر أعداء، بل أنتجت فراغا استراتيجيا ملأته إسرائيل، وبموافقة غربية، وبشراكات مع خصوم أنقرة التاريخيين، فحين توقّع تل أبيب اتفاقيات تعاون استراتيجي مع اليونان وقبرص، وتحوّل شرق المتوسط إلى مساحة عسكرية واقتصادية موجّهة ضد أنقرة، يصبح الصمت شكلاً من أشكال الإنتحار.
إسرائيل لا تواجه تركيا عسكريا بشكل مباشر، لكنها تحاصرها استراتيجيا، في الغاز، الملاحة، التحالفات، وفي دعم الأكراد وانفصالهم، لأن وجود دولة كردية سيعني لاسرائيل تواجدها المباشر على حدود تركيا، لذلك تمر تركيا اليوم بنوع من إعادة القراءة لتحالفاتها، فعلى سبيل المثال لا يمكن لأنقرة أن تتقرب من إيران وتستمر بنفس الدعم لأذربيجان التي كانت جزءا من التحالف الدولي الذي شنّ الحرب على طهران.
هناك أيضاً الملف السوري الذي حاولت تركيا طويلا إدارته بعقل أمني منفصل عن التوازنات الكبرى، عاد اليوم كبوابة اضطراريّة لها لأي تفاهم إقليمي، ومن الملفات التي قد يحملها أردوغان إلى إيران فكرة إعادة نشر رادارات داخل سوريا، بما يتيح لإيران رصد الهجمات الإسرائيليّة مبكرا، بعد أن قامت تل أبيب بتدمير تلك التي كان النظام السابق قد ركبها، وبالتالي تسعى إيران لحثّ الأتراك على منع تحويل سوريا إلى ممر آمن للطائرات والصواريخ الإسرائيلية، وكذلك تفعل بالنسبة للعراق حيث تعتبر طهران أن السماء العراقية تشكل اليوم مصدراً استخباراتياً كبيراً لإسرائيل، وهو ما يجب إيجاد العلاج له.
يُعاني الاقتصاد التركي اليوم، فالعملة تحت الضغط، والاستثمارات الغربية مشروطة، فيما إسرائيل تملك قدرة تأثير كبيرة على مراكز القرار المالي والسياسي في الغرب. لكن في المقابل، يدرك أردوغان أيضاً، أو عليه أن يُدرك، أن الاستمرار في سياسة التهدئة لن يحمي بلاده من مشروع إقليمي يُعاد تشكيله على قياس تل أبيب، حيث قد تتبدل الخرائط وتُقسم المناطق، ولا شكّ أن بمشروع إسرائيل يقع تقسيم تركيا أيضاً لمنع وجود أي قوة إقليمية بوجه اسرائيل.
صحيح أن العلاقات مع إيران هي علاقات معقدة، هي كذلك بالنسبة لتركيا وللسعودية، ولكنها اليوم ضرورية بسبب اشتراك الأطراف الثلاثة في إدراك أن إسرائيل لا تريد توازنا، بل تفوقا مطلقا، وبالتالي تصبح هنا أيضاً العلاقات الإيرانية مع سوريا الجديدة هي علاقات مطلوبة، وتسعى تركيا لنسجها ولو بالحد الأدنى في المرحلة الحالية، ورغم كل ذلك فإن السؤال الحقيقي الذي يواجه أنقرة اليوم ليس إن كانت ستتخلى رسميا عن شعار “صفر مشاكل”، بل إن كانت مستعدة لدفع ثمن الخروج منه، علماً انها تقف أمام خيار صعب، فإما الاستمرار في التردد، أو القبول بأن الأمن القومي التركي سيصبح بمهبّ الريح.
النشرة



