اخر الاخبارمقالات وقضاياهام

الانعزالية السنية ولعنة المظلومية

سامر زريق

موجة الاعتراض البيروتي الواسعة على الحكومة ورئيسها بسبب نتائج اختبارات المدرسة الحربية وما عُدّ سياسة إقصاء لأبناء العاصمة من وظائف الدولة، تخفي في طيّاتها أزمة سنية مركبة ظاهرها المظلومية. بداية، يبلغ عدد المقبولين الإجمالي 144 تلميذ ضابط، موزعين على الجيش، وقوى الأمن الداخلي، والأمن العام، وأمن الدولة، والجمارك. عقب مراعاة معيار المناصفة، يصبح الهامش المتاح للمسلمين بكل مذاهبهم بحدود 70، بما يجعل المنافسة أكثر صعوبة وتعقيدًا.



وهنا يبرز عامل الكفاءة التعليمية معطوفًا على مدى الاهتمام بالوظيفة والتحضير لها، حيث تقدّم أبناء منطقة إقليم الخروب، ومن بعدهم أبناء عكار في النتائج، على حساب البيارتة والطرابلسيين وغيرهم. بيد أن جذور الاعتراض ترتكز في الأساس على عوامل تاريخية في طليعتها الواسطة، وفقدان الثقة في معايير الرقابة والشفافية ضمن مؤسسات الدولة. يضاف إليها تأثير الدعاية التحريضية التي يمارسها بعض المراجع السنية للتصويب على رئيس الحكومة نواف سلام من بوابة اللعب على وتر النزعات المناطقية.

في حين أن هذه النتائج تشكل ترجمة عملية للفجوة في مقاربة الوظيفة العامة في العقل الجمعي السني. في إقليم الخروب، يعد الدخول إلى مؤسسات الدولة بمثابة قيمة اجتماعية عليا، وعرف راسخ يتوارثه أهلها منذ أيام الرئيس الراحل كميل شمعون. ولذلك تُقبل النخب من أصحاب الكفاءة والتميز على الوظائف العامة في مختلف المجالات، ويتعاون أهل الخبرة والاختصاص في إعداد المتقدمين.

وفي عكار، يعتبر الانتماء إلى المؤسسة العسكرية بالذات من قيم الترقي الاجتماعي، تليها المؤسسات الأمنية الأخرى. ويستدلّ عليها بالمكانة المميزة لأصحاب النجوم في المناسبات العامة والخاصة، وتصل إلى الزواج بارتداء بزة المدرسة الحربية. والأمر ينسحب على الطبقة العامة، حيث لا يزال الانتساب إلى المؤسسات الأمنية محلّ إقبال رغم الانخفاض المريع في قيم المداخيل تحت تأثير الأزمة الاقتصادية، حيث يجد أبناء الطبقات المهمّشة في عكار، كما في بعلبك – الهرمل والضاحية الجنوبية، في الانتماء إلى هذه المؤسسات ملاذًا متاحًا للاستقرار واستمرارية الدخل، رغم انخفاضه، بما يعينهم على تأسيس عائلة.

في المقابل، فإن الانتساب إلى هذه المؤسسات ضمن أوساط الطبقة النخبوية في المدن الكبرى يعد منخفضًا انسجامًا مع الميل التاريخي إلى التجارة والقطاع الخاص، والذي تعزز أكثر في ظلال الأزمة الاقتصادية، حيث صار الاهتمام منصبًا على العمل في الخارج. ويبقى الإقبال على الوظيفة العامة أكثر حضورًا ضمن الطبقة الوسطى رغم تأثره نسبيًا بالعوامل الاقتصادية إياها. وعليه، أتت نتائج اختبارات المدرسة الحربية لتعكس هذا الواقع، إذ نجح العديد من أبناء الطبقة الوسطى من بيروت وسائر المناطق السنية، لكن رتبهم لم تتح لهم أن يكونوا ضمن المقبولين.

بيد أن الإشكالية التي تجعل مثل هذه الاعتراضات تتخذ طابع موقف عام تتجسّد في خطاب انعزالي سني حديث نما على وقع مظلومية امتزجت بتأثير تقسيمات القوانين الانتخابية. فمع فقدان قيم التنافس السياسي الجدي عند السنة، والافتقار للمواقف والبرامج الموضوعية والفكر السياسي الرصين، يصبح الارتكاز على العوامل الشعبوية واستثارة العصبيات الضيقة هو الأساس في مخاطبة القواعد الجماهيرية واستقطابها مع اقتراب الاستحقاقات، لتكتسي المعركة الانتخابية بنزعة تحصيل الحقوق المسلوبة وكأن قطاعات الدولة “غنيمة حرب”.

وإذا كان لكل منطقة خصوصيات تعدّ مصدر فخر وتبجيل، فإن هذه النزعة الانعزالية مردّها إلى انكسار التوازن وطغيان الهويات الفرعية على المشهد السني العام. المثير أن السنة لطالما عرّفوا أنفسهم بـ “الطائفة الأمّة” لتفسير ارتباطهم بالقضايا العربية والإسلامية، لذلك يبدو هذا الخطاب الانعزالي طارئًا وفجًّا، خصوصًا مع ملاحظة ضعف تأثير السمة المناطقية عند الطوائف والمذاهب الأخرى.

بكافة الأحوال لا يمكن ربط كرامة بيروت أو طرابلس بضابط هنا أو مدير هناك. الأصل في المسألة يكمن في ضرورة صياغة خطاب سني يرتكز على الانتقال من “لعنة” المظلومية إلى روحية المبادرة، ومن الانعزال عن الشأن العام إلى تعزيز الاندماج مع مسار الدولة.

وحينما تشعر جماعة أو منطقة بغبن السلطة تجاهها، فإن أداة التغيير متاحة عبر الانتخابات. وفي هذه تشكل نسب الاقتراع المتدنية في بيروت وطرابلس عاملًا مكملًا لظاهرة سلبية تتمثل بالاعتراض على قرارات معينة، دون أن يصار إلى توظيف هذا الموقف كحافز مولّد لفعل تنفيذي يترجم في الإقبال على الدولة لتغيير الواقع الراهن. من هنا يبدأ الحل.

نداء الوطن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى