المدرسة واللباس: قصة التحدّي اليومي

مازن مجوز
يعدّ الزيّ المدرسيّ جزءًا لا يتجزأ من المشهد التعليمي اليومي، إذ يرافق الطالب في رحلته منذ خطواته الأولى نحو المعرفة، وحتى تخرّجه وبناء مستقبله. فهو ليس مجرّد قطع قماش متشابهة، بل هو رمز يعكس هوية المدرسة ويمنح الطلاب شعورًا بالانتماء إلى جماعة واحدة تسير نحو هدف مشترك. وعندما يرتدي الطلاب الزيّ المدرسيّ، تتلاشى الفوارق الظاهرة بينهم، فيسود مبدأ المساواة، ويحلّ الاحترام محل التنافس القائم على المظهر.
لكن في السنوات الأخيرة، ومع الكارثة الاقتصادية التي أثقلت كاهل الأهل وخنقت قدرتهم المعيشية، تحوّل الزيّ المدرسي لدى كثير من العائلات من رمزٍ للمساواة إلى عبءٍ إضافي يصعب تأمينه. فارتفاع الأسعار وتراجع الدخل دفعا بعض أولياء الأمور إلى اتخاذ قرارات قسرية، كان من بينها الاستغناء عن الزيّ المدرسي لصالح تأمين الأساسيات الأكثر إلحاحًا، كالقرطاسية والكتب والرسوم الدراسية.
وفي ظلّ هذه الظروف، وجد بعض الطلاب أنفسهم في مواجهة مواقف محرجة داخل المدرسة، حيث بات غياب الزيّ يسلّط الضوء على الفوارق الاقتصادية بدل أن يطمسها. وهنا تبرز إشكالية حقيقية تستدعي إعادة النظر في طريقة التعامل مع الزيّ المدرسي، بحيث يبقى وسيلة لتحقيق العدالة والتكافؤ، لا سببًا إضافيًا للضغط النفسي أو الإقصاء، خصوصًا في أوقات الأزمات التي تتطلّب قدرًا أكبر من التفهّم والمرونة.
ففي يوم دراسيّ، نادت مربية إحدى المدارس الطالب أيمن ف. (11 عامًا) بصوت مرتفع: “أين زيّك المدرسيّ؟!”. توقف أيمن للحظة، ثمّ أجاب بحذر خفيف: “لم أستطع شراءه حتى الآن…”. ارتفعت الهمسات بين الطلاب، ونظرت إليه بعض الوجوه بتعاطف، بينما تحوَّل البعض الآخر إلى نظرات محرجة وصمت طويل.
طلبت المربّية منه التقدّم إلى جانب الصف، لكنه شعر بحرج شديد… كأن هناك جدارًا يفصله عن أصدقائه. نظر إلى حقيبته القديمة، وتساءل في نفسه: “هل الزيّ وحده هو ما يجعلني طالبًا جديرًا؟ أم أن دراستي واجتهادي هما اللذان يحدّدان ذلك؟”.
جلس فادي على أحد المقاعد القريبة من السور، بينما طلاب الصفوف يدخلون واحدًا تلو الآخر. بدأ قلبه ينبض بسرعة، لكنه لم يستسلم لليأس. أخذ نفسًا عميقًا وتذكر كلمات والدته حين ودَّعته صباحًا: “القيمة ليست في اللباس… بل في العلم الذي تحمله في قلبك”.
هي حادثة قد تبدو عابرة، لكنها تحمل في طيّاتها دلالات عميقة تتجاوز الموقف نفسه، وتمتدّ إلى الأثر النفسي والتربوي الذي قد يلازم الطالب لسنوات. فمثل هذه اللحظات قد تزرع في نفس الطفل شعورًا بالنقص أو الخجل، وتضعف ثقته بذاته، وتشوّه علاقته بالمدرسة التي يُفترض أن تكون مساحة أمان واحتواء قبل أي شيء آخر.
وتفتح هذه الحادثة الباب أمام تساؤلات جوهرية: هل ما زال الزيّ المدرسيّ يؤدّي دوره الحقيقي في تحقيق المساواة؟ أم أنه، في ظلّ الأزمات الاقتصادية، بات أداة غير مقصودة لكشف الفوارق وتعميقها؟ وأين تقف المسؤولية التربوية في الموازنة بين تطبيق القوانين ومراعاة الواقع الإنساني للطلّاب؟
في هذا السياق، يعلّق ناجي. ك. (أستاذ رياضيات، وناظر في إحدى المدارس الرسمية في بيروت): “أرى بعد 27 سنة في حقل التربية، أن الترتيب وتوحيد الزيّ المدرسيّ جزء من التنظيم والتعريف عن هوية الطالب، طالب العلم والمعرفة، لكي لا تكون المدرسة خليطًا من الألوان والموضة التي تكون بعيدة من أجواء الدراسة إلى حدّ ما”، معربًا عن تفهّمه الوضع الاقتصادي الضاغط على الأهل والتلاميذ، و “كفاح عدد لا بأس من الطلاب في العمل والعلم معًا، ولهم كلّ الاحترام والتقدير، ومع ذلك، لم أرَ أحدًا منهم تذمر من الأسعار التي هي بمتناول الجميع ولا تشكّل عائقًا ماديًا كبيرًا لديهم”.
ومن الأمثلة التي يعطيها ناجي هو أن حيازة طلاب التعليم الثانوي الرسمي “لوغو” خاصًا بهم تشكّل جزءًا من ردم الهوّة والندية الطبقية في التعليم الثانوي، والنتائج هي الحكم خصوصًا أن أساتذتهم مشهود لهم.
بدورها، تقول ديانا الزين (أستاذة، ومتخصّصة بالشؤون التربوية): “من الضروري أن يكون الهندام مرتبًا ونظيفًا، ولا يحق للمدرسة فرض الزيّ المدرسي الخاص بها، بل فقط من ناحية اللونين الأبيض والكحلي، وكلّ المدارس يجب أن تلتزم به، وهو ما لا يحصل مع معظم المدارس، حتى أن بعض المدارس ترغم الأهل على دفع ثمن هذا الزيّ، وبشكل يفوق قدرتهم المادية، وللأسف، لا يعرف الكثير من الأهل أن القانون هو لصالحهم من ناحية رفض ثمن الهندام للمدرسة، وقد سجلنا هذا العام عددًا من الحالات التي لجأت فيها الإدارة إلى عدم إدخال الطالب غير الملتزم بالهندام المحدّد إلى الصف”.
وتبدي الزين استغرابها من أنه “عندما نوضح للأهل أن القانون لصالحهم، وهو غير ملزم لهم بهندام المدرسة، فيجيبوننا أنه يجب على ابنهم أن يكون مرتبًا وهوية المدرسة مهمة، وهذه هي مشكلة البلد بصراحة، وهي مخالفة القانون إن كان من ناحية المدرسة أو من ناحية الأهل”، معتبرة أن اللبنانيين لا يحبّون الالتزام بالقوانين، “وكل واحد عامل قانون لحالو ومعتاد على عدم المحاسبة”.
وفي رسالة موجّهة من المفتشية العامة التربوية إلى إحدى المدارس الرسمية في 10 أيلول الفائت حول إلزام بعض مديري المدارس الطلاب شراء الزيّ المدرسي والقرطاسية من مؤسسة أو متجر محدّد، أو باستيفاء رسوم معينة لتأمين الزيّ المدرسي والقرطاسية وغيرها، ذكّرت المديرية بالمذكرة رقم 337/م/2003 الصادرة عن وزير التربية والتعليم العالي آنذاك، والتي لا تزال أحكامها سارية المفعول طالما أنها لم تُعدَّل أو تُلغَ صراحة أو ضمنًا. وتمنع هذه المذكرة منعًا باتًا مديري المدارس والثانويات الرسمية من إلزام الطلاب شراء الزيّ الموحد وزيّ الرياضة والقرطاسية من أي مؤسسة أو معمل أو متجر خاص، والاكتفاء بتحديد شكل الزي ولونه وفقًا لمواصفات معيّنة. وتمنعهم كذلك منعًا باتًا من جباية أي مبلغ خارج المبالغ المحدّدة في الأنظمة والنصوص المرعية الإجراء، تحت طائلة ملاحقة المخالفين.
وطلبت المديرية من الأهل والطلاب ضرورة إبلاغها بأي تجاوز لأحكام هذه المذكرة، وذلك لاتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين، وإعادة الأموال المستوفاة إلى أصحابها.
وبالعودة إلى ناجي، يكشف أن صندوق الثانوية التي يعمل فيها يقوم – بحالات متعددة – بدعم الطلاب الأشد حاجة، وهناك باب في موازنة الثانويات يتيح للمدير صرف مبلغ مقبول بشكل مبرّر، وهناك حالات يتكفل بها الأساتذة والمعلمات بمبلغ رمزي يساهم في تيسير الأمور على الطلاب لناحية شراء “الزي الخاص بالمدرسة”، لافتًا إلى أن طلاب التعليم الثانوي الرسمي منافسون أشدّاء لطلاب التعليم الخاص، والدليل نتائج الامتحانات الرسمية، ما دفع بالعديد من أساتذة التعليم الخاص إلى التجاوب مع عروض مغرية للانضمام إلى أساتذة التعليم الثانوي الرسمي لكي يكونوا جزءًا من كادرهم التعليمي.
وفي الختام، يتضح أن قيام عدد من المدارس الرسمية والخاصة بإلزام أهالي الطلاب بشراء الزي المدرسي من مصدر محدّد تابع للمدرسة أو من المدرسة ذاتها، لا يستند إلى أيّ سند قانوني، بل يُعدّ مخالفة صريحة للمذكرة رقم 337/م/2003 الصادرة عن وزارة التربية، والتي شدّدت على حرية الأهل في اختيار مكان شراء الزي، طالما يلتزم بالمواصفات المطلوبة.
إن استمرار بعض المؤسسات التعليمية في فرض هذا الإجراء لا يمسّ فقط بمبدأ حرية الاختيار، بل يشكل عبئًا اقتصاديًا إضافيًا على الأسر، ويتنافى مع روحية التعليم الرسمي والخاص في لبنان، الذي يفترض أن يُراعي العدالة والمساواة. لذا، فإن احترام هذه المذكرة وتفعيل الرقابة على تطبيقها يُعدّ خطوة ضرورية لحماية حقوق الأهل والطلاب، وتعزيز الثقة في المؤسسات التربوية الرسمية والخاصة.
وعليه، فإن إعادة النظر في كيفية التعامل مع الزيّ المدرسي لم تعد ترفًا، بل ضرورة تربوية وأخلاقية، تفرضها ظروف المجتمع وتحدّياته. فالمدرسة، قبل أن تكون مكانًا للالتزام بالشكل، هي فضاء لبناء الإنسان، وحماية كرامته، وتعزيز قناعته بأن قيمته الحقيقية تُقاس بعلمه وأخلاقه واجتهاده، لا بما يرتديه.
نداء الوطن



