ثلاث سنوات على انتخابات المفتين: إفتاء بعلبك – الهرمل نحو

عيسى يحيى
ثلاث سنواتٍ مرّت على انتخابات المفتين في عدد من المحافظات اللبنانية. محطة لم تكن عابرة في تاريخ دار الفتوى، بل شكّلت محاولة جدّية لإعادة تنظيم البيت الداخلي للطائفة السنية، بعد سنوات طويلة من اعتماد منطق التعيين بدل الاحتكام إلى آليات انتخابية واضحة. خطوةٌ جاءت في سياق سياسي مأزوم، وفي لحظة كانت فيها المؤسسات الدينية مطالَبة باستعادة دورها التمثيلي، بعيدًا من منطق الوصاية أو الارتهان للتوازنات السياسية المتقلّبة.
لم تكن أهمية هذه الانتخابات محصورة في آليتها فقط، بل في الرسائل التي حملتها، لجهة التأكيد أن دار الفتوى تسعى إلى ترسيخ مفهوم الشراكة داخل الطائفة، وتعزيز الشرعية المستمدة من القاعدة لا من القرار الفوقي. وقد شكّلت هذه المقاربة محاولة للانتقال من إدارة تقليدية إلى إدارة مؤسساتية، تقوم على وضوح الصلاحيات وتوزيع الأدوار، بما يساهم في تحصين الموقع الديني في مواجهة محاولات التسييس أو التهميش.
وفي البعد الوطني الأوسع، جاءت انتخابات المفتين لتؤكد أن المؤسسات الدينية، حين تُدار بمنطق داخلي سليم، قادرة على لعب دور توازني في الحياة العامة، لا سيما في بلد تتداخل فيه الطائفة مع السياسة بشكل عضوي. فالمفتي المنتخب لا يمثل فقط مرجعية دينية، بل يشكّل حلقة وصل بين المجتمع والدولة، ومظلة معنوية قادرة على تخفيف الاحتقان، إذا ما أُحسن استخدام هذا الدور.
أما في البعد الاجتماعي، فقد أعادت الانتخابات الاعتبار إلى ثقة شريحة واسعة من أبناء الطائفة بدار الفتوى، بعدما ساد لفترة شعور بالتباعد أو الغياب. فالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، رغم ما رافقه من تجاذبات، أعاد الشراكة في القرار، وفتح الباب أمام محاسبة معنوية قائمة على الأداء، لا على الانتماء السياسي أو العلاقات الشخصية.
في هذا الإطار، شكّلت انتخابات مفتي بعلبك الهرمل حالة خاصة، إذ تحوّلت المعركة حينها إلى ساحة سياسية بامتياز، حاولت فيها أطراف من خارج البيئة السنية التدخل في شؤون الطائفة، في منطقة تعاني أصلًا من اختلالات في التوازنات، ومن محاولات دائمة لملء الفراغ داخل مؤسساتها. إلا أن تجاوز تلك المرحلة كان المدخل الأساس لمرحلة جديدة عنوانها تثبيت حضور دار الفتوى وتفعيل دورها.
منذ اللحظة الأولى، وخلال مؤتمر صحافي عقده أمس، أكد المفتي الرفاعي أن دار الفتوى مدّت يدها للجميع، متجاوزة أجواء الانقسام التي رافقت الاستحقاق الانتخابي، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن هذه الدار هي بيت لجميع أبناء الطائفة، وليست طرفًا في أي اصطفاف سياسي. وقد تُرجم هذا التوجّه عمليًا عبر خطوات تنظيمية وميدانية، أبرزها افتتاح مركز لدار الفتوى في وسط مدينة بعلبك، ليكون قريبًا من مؤسسات الدولة، وبعيدًا من الحارات الضيقة والحساسيات المناطقية، بما يعزز صورة المؤسسة الجامعة.
كذلك يشير إلى أن دائرة الأوقاف شهدت إعادة تنظيم وتفعيل، من خلال نقل مركزها، وإطلاق آليات أكثر انتظامًا في الجباية، ما أسهم في تحسين إدارة الأملاك الوقفية. وفي موازاة ذلك، جرى تفعيل صندوق الزكاة، الذي بات يؤدي دورًا اجتماعيًا ملموسًا عبر تقديم مساعدات صحية ودعم مباشر للأسر المحتاجة، في منطقة تعاني مستويات مرتفعة من الفقر والإهمال المزمن.
ولا تقل أهمية المشاريع الاستثمارية الوقفية التي أُطلقت أو وُضعت على سكة التنفيذ، إذ باتت الأوقاف على أبواب إنجاز مناقصات لبناء محال تجارية ومكاتب على أراضٍ وقفية في بعلبك وعرسال، يعود ريعها لدعم استدامة عمل الأوقاف وتخفيف الاعتماد على المساعدات الظرفية.
في المحصّلة، لا يمكن فصل أداء إفتاء بعلبك الهرمل عن السياق الأوسع لدور دار الفتوى في الحفاظ على الاستقرار الأهلي، وتحييد المنطقة عن أي توترات سنية – شيعية، أو إسلامية – مسيحية. وبعد ثلاث سنوات على الانتخابات، يبدو أن الرهان على المأسسة بدأ يؤتي ثماره، ولو بخطوات تدريجية، في منطقة أحوج ما تكون إلى مؤسسات جامعة، لا إلى مزيد من الانقسامات.
نداء الوطن



