بين ضغوط الداخل والخارج… من يمسك فعليًا بمسار لبنان السياسي بعد الحرب؟

غم مرور عام على انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان، لا يمكن الحديث بالمُطلَق عن هدنة حقيقية تمّ التوصّل إليها، فالحرب لم تنتهِ عمليًا، لكنها أصبحت أحاديّة الجانب إن صحّ التعبير، بفعل الخروقات الإسرائيلية اليومية لما سُمّي باتفاق وقف إطلاق النار، الذي بدا عمليًا إطارًا يتمّ من خلاله ترتيب مرحلة ما بعد المواجهة، إذ فصّلته إسرائيل على مقاسها، لتمنح نفسها ما سمّته بـ”حرية الحركة” للردّ على أيّ مصدر تهديد محتمل.
خير دليل على ذلك أنّ طبول الحرب بجولتها الثانية لا تزال تُقرَع اليوم بعد عام كامل على الاتفاق، وهو ما يعزوه البعض إلى عناصر التفجير التي لا تزال قائمة على الأرض، من دون أن يطرأ عليها تغيير جوهري، من سلاح حزب الله، إلى إعادة تشكيل الوضع في الجنوب، وشكل المراقبة الدولية، وصولًا إلى حجم تدخل واشنطن وطهران وتل أبيب، وربما غيرها من العواصم أيضًا، في رسم هوامش الحركة اللبنانية.
هكذا، يصبح السؤال عمّن يمسك بالمسار أهم من السؤال حول فحوى النقاشات، وهو ما يفترض أن ينطلق من لجنة “الميكانيزم”، التي كان يفترض أن تبقى إطارًا تقنيًا لضبط الخروقات. إلا أنّ مسار النقاش حولها، خصوصًا مع تعيين السفير السابق سيمون كرم رئيسًا للوفد اللبناني إليها، مع ما يعنيه ذلك من إدخال للطابع المدني عليها، في خطوة غير مسبوقة منذ 40 عامًا، حوّلها إلى بوابة سياسية يُراد من خلالها إعادة تعريف قواعد اللعبة.
في خلفية هذا التحوّل، يبرز موقف “حزب الله” الرافض للخطوة بوصفها “تنازلاً مجانيًا” تقدّمه الحكومة اللبنانية، التي سبق أن اتهمها بالخضوع لما وصفها بالإملاءات الأميركية والإسرائيلية، إلا أنّه لم يقدّم، حتى الآن على الأقل، ما يوحي بإمكان تراجعه عن استراتيجية “الصبر” التي اعتمدها طيلة العام الماضي، فكيف يُفهَم كلّ ذلك في السياق العام، ومن الذي يمسك فعليًا بمسار لبنان السياسي في هذه المرحلة؟
في المبدأ، ينطلق “حزب الله” في مقاربته من أنه التزم بالكامل باتفاق وقف إطلاق النار، بخلاف إسرائيل التي تعاملت معه وكأنّه استراحة مقاتل لإعادة التموضع واستكمال الضغط بوسائل أخرى. من هذه الزاوية، يرى الحزب أن أي تنازل يُقدَّم اليوم، سواء في تركيبة اللجنة، أو في توسيع دور المراقبين، أو في صياغة التزامات إضافية، يُقرأ كاستجابة لجهة لا تحترم أصلًا ما وُقِّع، وكدعوة مفتوحة لمزيد من الشروط.
هذا المنطق يفسّر تشدّد الحزب في رفض مشاركة مدني في لجنة وقف إطلاق النار، واعتبار ذلك “تنازلاً مجانيًا لإسرائيل”، لأنه يحمِّل اللجنة طابعًا سياسيًا أوسع، ويفتح الباب أمام نقاش يتجاوز الخروقات إلى جوهر الترتيبات المستقبلية في الجنوب وحدود السلاح. وترى قيادة الحزب أنّ المشكلة ليست في الشخص المدني بذاته، بل في الوجهة التي يُدفَع إليها الملف: نقل النقاش من مستوى عسكري-أمني مضبوط إلى مستوى سياسي قابل للتوظيف الدولي والداخلي.
لكنّ قراءة موقف الحزب لا تكتمل إذا بقيت محصورة في هذا الجانب، فالتشدّد في رفض التنازلات يعكس أيضًا، وفق ما يقول العارفون، إدراكًا واضحًا بأنّ كثيرًا من المعادلات تغيّر بعد الحرب واغتيال السيد حسن نصر الله، وأنّ قدرة الحزب على فرض قواعد اشتباك ثابتة لم تعد كما كانت. من هنا، يعتبر الحزب أن أيّ خطوة إلى الوراء في الملفات البنيوية قد تفتح الطريق أمام مسار تراكمي يستهدف جوهر دوره، لا تفاصيل حركته.
ولعلّ الحزب بدأ يستشعر ذلك بصورة أو بأخرى، خصوصًا في مواقف بعض خصومه الذين لا يتردّدون في تكرار “السردية الإسرائيلية” إن صحّ التعبير، واعتبار أن السلاح هو المشكلة، وليس ردّة الفعل. ولذلك، يحرص الحزب على التأكيد أنه لا يعرقل الدولة، علمًا أنّ هناك من يجزم أنّ وجود الحزب في الحكومة يشكّل ما يشبه “مظلّة الحماية” لمنع انتقالها إلى موقع المساكنة مع إسرائيل تحت عنوان “السلام الاقتصادي” أو “الفرص الاستثمارية”، وغيرها.
على المستوى الرسمي، يبدو المسؤولون وكأنّهم يحتفظون بهامش ضيّق بين منطقي الحزب والخارج. ففيما يؤكد الرئيس جوزاف عون تصميم الدولة على تنفيذ مبدأ “حصرية السلاح”، يكشف رئيس الحكومة نواف سلام أن حصر السلاح جنوب الليطاني شارف على الاكتمال، وأن الدولة ثابتة على خيار ضبط السلاح في إطار الشرعية. لكن هذه العناوين، حين تُختبَر في الميدان، تصطدم بمعطيين: أن السلاح ما زال خارج الاحتكار الفعلي، وأن المفاوضات لا تُدار من الدولة وحدها، بل تحت سقف شبكة أوسع من اللاعبين.
إشكالية الحكومة هنا مزدوجة، فهي من جهة تحاول تقديم صورة عن “دولة تفاوض باسم كل لبنان”، ومن جهة أخرى تضمّ في تكوينها الطرف الذي يضع السقف الأعلى لما يمكن القبول به. وإذا كانت مشاركة “حزب الله” في الحكومة تُقدَّم رسميًا بوصفها عنصر استقرار وتمثيل، فإنها في الوقت نفسه تجعل من كل إطار تفاوضي قابلًا للنقض من داخل السلطة نفسها، وهو ما يدفع كثيرين إلى طرح سؤال جوهري: من يملك حق الكلمة الأخيرة في لبنان؟.
في الواقع، لا يمكن العثور على إجابة “جازمة” على مثل هذا السؤال، فالحكومة، برأي البعض، لا تبدو قادرة على تنفيذ القرارات التي اتخذتها، وهي التي تحاول تجنّب الصدام مع الحزب خشية انفجار داخلي، وتحاول في الوقت نفسه تجنّب الصدام مع الخارج خشية تشديد الخنق المالي والسياسي. وفي ظلّ هذا الوضع، تصبح لجنة “الميكانيزم” ساحة مثالية لتحقيق خرق أو تقدّم، ولو بالحدّ الأدنى.
هنا، يبرز الدور الإقليمي والدولي أيضًا في الخلفية، فإسرائيل، بدعم الولايات المتحدة، تريد تغييرًا جوهريًا في وضع سلاح “حزب الله” وانتشاره جنوبًا، في وقتٍ تُطرَح سيناريوهات تتجاوز الخط الأزرق، على غرار الحديث عن “شمال الليطاني كاستحقاق أخطر”، وعن نموذج سيناء يُراد تطبيقه جنوبيًا عبر مناطق عازلة أو مناطق اقتصادية خاصة، بإشراف قوات دولية أو ترتيبات بديلة لليونيفيل.
في هذه الصورة، يصبح الجنوب مختبرًا لإعادة صياغة وظائف الحدود، ودور الجيش، ومستقبل السلاح، وموقع لبنان في خريطة “السلام المشروط”، إن صحّ التعبير، ولعلّ هذا ما يفسّر جزئيًا تشدّد الحزب في رفض أيّ توسيع للميكانيزم، وما يفسّر في المقابل اندفاع بعض القوى الغربية، وخصوصًا باريس من خلال الموفد الرئاسي جان إيف لودريان، للدفع باتجاه ترتيبات جديدة لمراقبة الحدود وتثبيت الهدوء، ولو عبر صيغ “بديلة” عن اليونيفيل.
بين موقف “حزب الله”، ووضع الحكومة، وسقف الخارج، لا يبدو أن سؤال “من يمسك فعليًا بمسار لبنان بعد الحرب؟” يملك جوابًا أحاديًا. فهناك طبقة قرار داخلية عند “حزب الله” لا يمكن تجاوزها، وطبقة قرار رسمية تحاول أن تحجز لنفسها مكانًا في التفاوض، وطبقة قرار خارجية ترسم الخطوط العريضة للمسموح والممنوع.
أمّا النتيجة، فقد لا تكون سوى البقاء في المنطقة الرمادية، أو الوسط، بمعنى لا حرب شاملة تُسقِط كل الحسابات، ولا سلام واضح المعالم يُنهي الجدل، بل اختبار طويل لقدرة لبنان على الصمود. وهنا، ربما، تكمن المعضلة الأعمق: أن لبنان يُعامَل مرّة أخرى كساحة اختبار لموازين القوى الإقليمية، أكثر مما يُعامَل كدولة تمتلك قرار الحرب والسلم.
النشرة



