مقالات وقضايا

الحبرُ الأعظم يزور أرض القداسة.. والجنوبُ ينتظر البركة البابويّة!

| الشيخ ربيع قبيسي |

حين يصلُ قداسةُ البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان، لا يزور بلدًا كبقيةِ البلدان، إنّما يخطو إلى أرضٍ عرَفَت معنى الوحي، واحتضَنَت أنبياءَ وقدّيسين وأولياء، وتفتَّحَت فيها رسالاتُ السماءِ على الناس، فكانَ وطن القداسةِ والإيمان، هذه الأرضُ الصغيرة التي قالَ فيها البابا القديس يوحنا بولس الثاني عبارتَه التي ما زالت تتردَّد: لبنان أكثر من وطن، هو رسالة. ورغم ما مرَّ على هذا الوطنِ من تعبٍ وحروبٍ وانقسامات، لا تزال تلك الرسالةُ حيّةً في صدورِ أبنائه.

أنا، كرجلِ دينِ مسلمٍ شيعيّ تربّيتُ في مدرسةِ الإمام موسى الصدر، لا أستقبلُ هذه الزيارة كما تُستقبَلُ المناسباتُ الرسمية، بل أحملُها في قلبي قبلَ أن أفكّرَ بها بعقلي، لأنّني أؤمنُ بأنَّ لبنان لا يقوم إلا على اللقاء، على الكلمةِ الطيبة، وعلى الاحترامِ المتبادل بين أهله.



زياراتُ الباباوات إلى لبنان ليسَتْ مجرد مسرح بروتوكول أو صور تملأُ الشاشات، إنّها فعلُ تضامنٍ روحي، ونافذةٌ تفتحُ على أملٍ يحتاجُه اللبنانيون وسط ما يعيشُه وطنُهم من جراحٍ ومعاناة، إنّها رسالةُ رجاءٍ وسلام رغم كل الألمِ والحزنِ والدماء. وتزداد أهميةُ هذه الزيارات حين يأتي قداسةُ البابا ولبنان يواجِهُ اعتداءاتٍ وتهديدات، وحين يشعرُ أبناؤه شعبًا وأرضًا أنّهم لا يقفون وحدَهم في وجهِ عدوّ لا يزال يطمعُ ويعتدي.



ولذلك تَمَنَّيْنَا، بصدقٍ وبدعاءِ القلب، أن تمتدَّ زيارةُ قَداستِه إلى الجنوب، إلى بلدةِ قانا الشاهدة والشهيدة حيث أجران المعجزة الأولى في عرسِها، وأنين أطفال المجزرةِ البشعة ما زالتْ في أزقّةِ حارة مار يوسف، إلى تلك الأمكنةِ التي سارَ فيها السّيدُ المسيح يومًا في مدينة صور وأعمدةِ الكنيسةِ الأولى، والأرض التي باركَهَا المسيحُ بحضورِه.

الجنوبُ الذي لم يكن يومًا مجرد مساحةٍ على الخارطة، بل صارَ مرآةً لكرامةِ شعبٍ قاوَمَ ودافَعَ وقدَّمَ شهداءَ من كل الطوائف، بالأمس شاركنا عائلة الشهيد أنطونيو حنا كيال قداس السنة الأولى بعدما ارتقى شهيدًا من الجيش اللبناني على مذبح الوطن، فاجتمعنا في كنيسة سيدة البحار مؤمنين بأنَّ الدفاعَ عن الإنسانَ ليس هويّةً طائفية بل قيمةٌ إنسانيةٌ مشتركة، هذا الجنوب ينتظرُ اليوم البركةَ البابويّة. وإنْ شاءَتْ الظروفُ الميدانيّة أن لا تُحَط رِحالُ قَداستِه في أرض الجنوب، سأحملُ بركةً يوم ألقاه في ساحةِ الشهداء في وسط بيروت وبكركي بين الشبيبة، وأنقلُها إلى كنائسِ الجنوب ومساجدِه، إلى الأوديةِ والسهول، والأرضِ التي ما زالت تنتظرُ عودةَ أهلِها على حدودِ الوطن.

إنَّ الجنوبَ يُلخِّصُ لبنان كما نُحبُّ أنْ نراه: مكانًا يفهمُ فيه الناسُ أنَّ الكرامةَ لا تُجزّأ، وأنَّ التضحيةَ في مواجهة العدو هي فِعلٌ يجتمعُ عنده العقلُ مع الإيمان، والوطنيةُ مع الأخلاق. ومع هذا كلّه، يبقى لبنانُ بحاجةٍ إلى شيءٍ واحد: أنْ نؤمِنَ بأنَّ الحوارَ ليس خيارًا ثانويًّا نلجأُ إليهِ عندَ الأزمات، بل هو شرطٌ لبقاءِ هذا الوطن، هذا البلدُ الذي جمعَ بين أجراسِ الكنائس وصوتِ المئذنة، وبينَ أعياد المسيحيين والمسلمين، لا يعيش إلا إذا عرفَ أبناؤه أنَّ رسالاتِ السماءِ جاءَت من أجلِ الإنسان، لا من أجلِ الخلاف عليه، كما كان يردّدُ الإمام موسى الصدر.

زيارةُ البابا ليست يومًا سنُضيفُه إلى الرزنامة، إنّها رسالةٌ للعالم بأنَّ لبنانَ ما زال واقفًا، وأنَّ أبناءَه بكلِّ طوائِفِهم قادرون أن يكونوا، إذا أرادوا، صورةً جميلةً عن معنى أنْ نعيشَ معًا، لا أن نعيشَ بجانبِ بعضِنا فحسب. إنَّ زيارةَ الحبرِ الأعظم هي دعوةٌ كي نتذكّرَ أنَّ في كلِّ واحدٍ منّا شيئًا من نورِ الله، وأنَّ هذا النور يحتاج إلى أرضٍ هادئة ليظهر، ولبنان يستحقُ أن يكونَ تلك الأرض.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى