اخر الاخبارمقالات وقضاياهام

التصعيد الإسرائيلي المتجدّد… رسائل أبعد من الجنوب وبري في قلبها؟!

على الرغم من أنّ الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار مع “حزب الله” لم تتوقف منذ إبرامه في تشرين الثاني، واستمرّت ما بعد الاتفاق الذي أنهى حرب الإبادة على قطاع غزة، ولو بشكل مؤقت، فاجأ العدوان الإسرائيلي الأخير على المصيلح جنوب لبنان الكثيرين، بما حمله من رمزية سياسية ومكانية، بالنظر إلى موقع الاستهداف الذي يُعرف بارتباطه الوثيق برئيس مجلس النواب نبيه بري، نظرًا لما يتمتع به من ثقل في البلدة.


من هنا، تفرض نوعيّة الاستهداف في المصيلح، قراءة مختلفة عن الاستهدافات المختلفة لمناطق جنوبية عدّة، سواء جنوب أو شمال الليطاني، باعتبار أنّ الضربة التي طالت معداتٍ مدنية في المصيلح، تجاوزت الميدان إلى السياسة،في ضوء الحديث عن رسائل بالنار أرادت تل أبيب توجيهها إلى الدولة اللبنانية برمّتها، لتتحوّل إلى اختبار مزدوج:اختبار للردع اللبناني الداخلي، واختبار لمدى التزام واشنطن بتوازن التهدئة الذي رعت خطوطه منذ عام تقريبًا.


فمنذ وقف إطلاق النار على الجبهة الجنوبية، تحاول إسرائيل أن تُبقي لبنان في حالة “هشاشة مضبوطة”، تُبقي معها باب الحرب مواربًا، ولكن “من طرف واحد”، تحت مسمّى “حرية الحركة”، إن صحّ التعبير، فهي لا تريد انفجارًا واسعًا، يعيد القتال إلى الذروة، لكنها في الوقت نفسه لا تسمح بعودة كاملة إلى الحياة الطبيعية في الجنوب، وهي تريد ترجمة ما تعتبر أنّه “انتصار” حقّقته في مواجهة “حزب الله”،

من هنا، يبدو استهداف المصيلح في التوقيت، كما في المضمون، فعلاً سياسيًا محسوبًا، يعكس رغبة تل أبيب في القول إنها تملك مفاتيح القرار الميداني والسياسي معًا، وإن “ما بعد غزة” لا يعني بالضرورة نهاية الصراع، بل بدايته في صيغة جديدة. فكيف تُفهَم هذه الصيغة، وكيف تقرأها دوائر القرار في لبنان، خصوصًا بعدما تلقّف رئيس مجلس النواب نبيه بري الرسالة التي قال إنها “وصلت”، متسائلاً في الوقت نفسه عن “صدقية” الراعي الأميركي.


في المبدأ، صحيح أنّ الاستهداف في المصيلح لم يستهدف شخص رئيس مجلس النواب، ولا دارته بشكل مباشر، إلا أنّ الرجل بدا في قلب الرسالة النارية التي أرادت إسرائيل توجيهها، ولذلك، لم يكن غريبًا أن يقرأ كثيرون القصف كرسالة مضمّنة إلى برّي، الذي يقف اليوم في موقع فريد بين طرفي المعادلة: من جهة، يمسك بخيوط الدولة ومؤسساتها، ومن جهة أخرى، يُعدّ الحليف الأقرب إلى “حزب الله”، وهو من يدير المفاوضات السياسية بالوكالة عنه.

ولعلّ بري نفسه لم يكن بعيدًا عن هذه القراءة، حين قال في تصريحات صحافية تعليقًا على العدوان على المصيلح إنّ “الرسالة وصلت”، لكن الأهم في تصريحه كان تساؤله عن “صدقيّة الراعي الأميركي”، إذ نقل النقاش إلى مستوى أوسع: هل ما زالت واشنطن راغبة في حفظ التوازن القائم،أم أنها تغضّ الطرف عن إعادة رسم المعادلة وفق شروط إسرائيلية جديدة، وهي التي يبدو أنها تحصر الضغوط بلبنان، الطرف الملتزم باتفاق وقف إطلاق النار؟.

وبالانتقال من الشكل إلى المضمون، بدا أنّ الرواية الإسرائيلية حول استهداف “مواقع لوجستية” تابعة لـ”حزب الله” لم تكن مقنعة أو واقعية، خصوصًا بعدما تبيّن أنّ ما أصابته الغارات فعليًا فعليًا كان معدات مدنية مخصّصة لأعمال رفع الركام وإعادة تأهيل البنى التحتية. وبهذا المعنى، تتجاوز الرسالة إطارها العسكري لتدخل في جوهر المعركة الاقتصادية-السياسية التي تُخاض على أرض الجنوب، وهي معركة إعادة الإعمار.


فمنذ أشهر، يبدو أنّ معركة إعادة الإعمار “مجمَّدة”، وغير مطروحة على “الأجندة”، في ضوء قرار إسرائيلي شبه مُعلَن بمنع أيّ ورشة في هذا الاتجاه، فكلّ خطوة نحو الإعمار تُقابل بضربة، وكلّ تحرّك للآليات يُراقب عن قرب، ولعلّ الهدف هو إبقاء الجنوب منطقة منكوبة سياسيًا قبل أن تكون مدمّرة عمرانيًا، معلّقة بين وقف إطلاق نار هشّ ومفاوضات مؤجلة، علمًا أنّ استهداف المصيلح جاء بعد ساعات على رفع بري للصوت في هذا الاتجاه.

هكذا، تحوّل منع إعادة الإعمار إلى ورقة ضغط استراتيجية، فتل أبيب تربط عمليًا بين عودة المدنيين إلى قراهم وبين “البيئة الآمنة” التي تطالب بها واشنطن لتنفيذ القرار 1701، أي نزع سلاح “حزب الله” وإعادة انتشار الجيش اللبناني جنوب الليطاني، حتى إنّ هناك من يصف الأمر بأنه محاولة واضحة لفرض معادلة “الإعمار مقابل الشروط الأمنية”، بحيث يصبح كلّ مشروع بناء مرهونًا بمستوى الخضوع السياسي.

وفي هذا السياق، يقرأ المراقبون الغارة على المصيلح كجزء من هذه المقاربة الجديدة، إذ إنّ استهداف منطقة مرتبطة مباشرة برئيس مجلس النواب، الذي كان أول من دعا إلى تسريع إعادة الإعمار، هو رسالة مزدوجة: من جهة، تحذير مباشر لبري من تحويل الإعمار إلى عنوان سياسي داخلي، ومن جهة أخرى، تنبيه للدولة اللبنانية بأسرها بأنّ أيّ محاولة لاستعادة السيادة الميدانية من دون تفاهم أمني جديد ستُواجَه بالنار.


انطلاقًا من ذلك، يرى البعض أنّ الولايات المتحدة تبدو اليوم أمام امتحان دقيق، وهو ما ألمح إليه بري في تصريحه،فهل تضبط إيقاع التصعيد الإسرائيلي وتلزم تل أبيب بالتهدئة، أم تتركها تفرض شروطها الميدانية تمهيدًا لصفقة أمنية جديدة؟.

حتى الآن، يبدو أنّ واشنطن تميل إلى الخيار الثاني، إذ تكتفي بالضغط لنزع سلاح “حزب الله”، وتقدّم الدعم المالي والعسكري للجيش اللبناني ضمن إطارٍ يرى فيه كثيرون إعادة هندسة للسيادة اللبنانية، من خلال تحويل المؤسسة العسكرية إلى الضامن الوحيد للأمن جنوبًا، من دون أن تبذل جهدًا فعليًا للضغط على إسرائيل لوقف استهدافاتها، ما يرسّخ انطباعًا بأنّ واشنطن تسعى لتطويع لبنان بالوسائل الإسرائيلية نفسها.

في المحصلة، يمكن القول إنّ الغارة على المصيلح فتحت صفحة جديدة من الحرب السياسية المفتوحة على لبنان، فتل أبيب تكتب رسائلها بالنار، لتقول إنّ الإعمار لن يبدأ قبل أن يُعاد رسم الخريطة الأمنية. وبرّي، بردّه الصريح، يذكّر بأنّ إعادة الإعمار ليست منّة بل حقّ سيادي لا يُقايض ولا يُساوَم عليه. وبين الرسالة الإسرائيلية والردّ اللبناني، تقف واشنطن أمام امتحان شائك: هل تختار دور الضامن الفعلي للتهدئة، أم تترك النار تكتب فصول “السلام” على طريقتها؟.

النشرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى