تراجع الطلب 50%.. المونة اللبنانية في خطر!

المصدر: المدن
الكاتب: ميساء عطوي
لطالما ارتبطت المونة اللبنانية بالوفرة والاكتفاء الذاتي، باعتبارها تقليداً عريقاً توارثته الأجيال من الجدّات اللواتي كنّ يملأن الجرار ويجففن البندورة على السطوح، إلى الأحفاد الذين ورثوا هذه الطقوس لتأمين قوت الشتاء من الزيت والقمح والكشك والمكدوس وسواها من المنتجات التقليدية، لتشكّل بذلك حكمة اقتصادية فعلية، إذ منحت العائلات طمأنينة في مواجهة تقلبات السوق وأمّنت لها استقراراً غذائياً بأسعار زهيدة. لكن في ظل الانهيار الاقتصادي الذي تجاوزت فيه أسعار المواد الأساسية كل التوقعات، تجد ربات المنازل أنفسهن أمام تحدٍّ مضنٍ لتأمين المواد الأولية، بعدما غدت كلفتها في أحيان كثيرة تفوق ثمن المونة الجاهزة في الأسواق، وما كان يعدّ بالأمس القريب استثماراً بسيطاً يضمن الاكتفاء الذاتي ويوفر المال على المدى الطويل، أصبح اليوم رهاناً اقتصادياً خاسرا.ً
وبين هؤلاء النساء تقف أم محمد كمثال حي أمام هذا التحول، إذ تروي لـ”المدن” تجربتها الممتدة منذ أكثر من عقدين في إعداد المونة، وما طرأ عليها من تغيّرات بفعل الأزمة الاقتصادية.
خط الدفاع الأول ضد الغلاء
بعزيمة وإصرار تحرص “أم محمد”، كما تفضّل مناداتها وهي ابنة بلدة دير الزهراني في جنوب لبنان، على إعداد المونة لعائلتها، وهي عادة قديمة ورثتها عن والدتها وجدتها، إذ اعتادت مع بداية كل صيف أن تجهّز مؤونة الشتاء بما يتوافر من أصناف أساسية كالزعتر والكشك والمكدوس والزيتون والبرغل وربّ البندورة والملوخية ولا تقتصر منتجاتها على هذه فقط، فهي أيضا تصنع أنواع مختلفة من المربيات مثل مربى التين والمشمش واليقطين، إضافة إلى خل التفاح وماء الزهر ودبس الرمان.
وتقول “أم محمد” لـ”المدن” إنّ السبب الرئيسي وراء استمرارها في هذا التقليد يعود إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها عائلتها، والاعتماد على المنتجات الجاهزة أمر شبه مستحيل، فرغم أن تحضير المونة في المنزل على حد تعبيرها يتطلب جهداً كبيراً، إلا أنه يبقى أوفر بكثير من شراء المنتجات من السوق، إذ تؤكد أنّ كيلو الكشك الذي تصنعه لا تتجاوز كلفته عشرة دولارات، بينما يباع جاهزاً بعشرين دولاراً تقريباً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزعتر والمربيات والمكدوس.
وأوضحت أنّها اضطرت هذا العام إلى شراء كيلو الزعتر من السوق بسعر يقارب 20 دولاراً بعدما كان سعره لا يتجاوز 10 دولارات في العام الماضي، مشيرة إلى أنّ الغلاء شمل معظم المكونات الأخرى كالسمّاق والفريك والكشك بنسبة زيادة تراوحت بين 10 في المئة و30 في المئة لكل صنف.
ورغم جهودها في زراعة محاصيل متنوعة من خيار وحمص أخضر وبندورة وباميا وبازلاء وباذنجان وتثليجها لتأمين حاجتها في الشتاء، لفتت أم محمد إلى أن مجمل كلفة المونة التي أعدتها هذا الصيف ارتفعت إلى نحو 200 دولار، بعدما كانت لم تتجاوز 120 دولاراً في العام الماضي.
ارتفاع أسعار المونة 10%
بينما تكافح ربات المنازل لتأمين المونة وسط ارتفاع الأسعار وارتفاع كلفة المعيشة، يواجه أصحاب محلات المونة الموسمية من جانبهم ضغوطاً مماثلة انعكست على أسعار المنتجات وحجم المبيعات، كما يوضح صاحب محل في كفررمان جنوب لبنان هو علي صمادي، الذي ورث المصلحة عن والده وجدّه منذ العام 1957 أنّ الطلب الأكبر يتركز على المونة التقليدية الأساسية مثل البرغل والكشك والزعتر والسماق والمكدوس والزيتون وربّ البندورة.
وأوضح صمادي أنّ أسعار العديد من هذه المنتجات شهدت هذا العام ارتفاعاً مقارنة بالعام الماضي، إذ ارتفعت معظم الأصناف بنسبة تقارب 10 في المئة. فالمكدوس، على سبيل المثال، كان يتراوح سعره العام الماضي بين 600 و700 ألف ليرة لبنانية، بينما أصبح هذا العام مليون ليرة.
في المقابل، أشار صمادي إلى أن أسعار بعض المنتجات بقيت مستقرة تبعاً لغزارة المحصول أو قلّته، كما حصل مع الزعتر الذي شهد شحاً هذا العام أدى إلى ارتفاع في سعره، بينما كان الموسم الماضي أوفر، وبالتالي كانت أسعاره أدنى. قائلا: “حين يكون الإنتاج وفيراً تنخفض الأسعار، والعكس صحيح، وعندما تكون البضاعة قليلة نضطر إلى التحكم بالسعر.”
%50 تراجع في الطلب
وعن حجم المبيعات، أشار صمادي إلى أنّ كلفة شراء المواد الأولية لإعداد أصناف المونة تقدر بحسب كمية التحضير، موضحاً أنّ الطلب كان أكبر العام الماضي مقارنةً بالعام الحالي. ففي حين بلغت مبيعات البرغل نحو 5 أطنان في العام الماضي، لم تتجاوز هذا العام 3 أطنان.
كما بيعت أكثر من 500 مرطبان من المكدوس والكشك العام الماضي، بينما لم تتخطَّ المبيعات هذا العام 250 كيلوغراماً فيما تراجع بيع الزعتر من نحو 500 كيلوغرام العام الماضي إلى ما يقارب 200–300 كيلوغرام هذا العام، مع تسجيل انخفاض مماثل في بقية المنتجات.
وعزا صمادي أسباب ارتفاع الأسعار وكلفة المنتج النهائي عند البيع إلى عدّة عوامل، أبرزها ارتفاع كلفة اليد العاملة الزراعية نتيجة كثرة الطلب عليها، وازدياد أسعار المواد الأولية للزراعة مثل الأسمدة وحراثة الأرض، وأنّ تكلفة تشغيل آلات التصنيع تلعب دوراً أساسياً في رفع الأسعار، إذ تحتاج هذه الآلات إلى الغاز والكهرباء والمازوت وغيرها من المواد التشغيلية التي تشهد بدورها ارتفاعاً مستمراً.
ورغم الارتفاع الملحوظ في الأسعار، شدّد صمادي على أنّ المونة تبقى في نظر كثيرين طقساً وثقافة متجذّرة، حيث يحرص البعض على تموين حاجاتهم لفصل الشتاء مهما بلغت قسوة الظروف الاقتصادية، إلا أنّ الكميات تتفاوت من شخص إلى آخر بحسب وضعه المادي، مشيراً إلى أنّ الطلب تراجع هذا العام بنسبة 50 في المئة مقارنة بالسنوات السابقة: “ومن كان يشتري 50 كيلوغراماً من البرغل العام الماضي، يكتفي اليوم بـ20 فقط، نتيجة الأوضاع الاقتصادية والأمنية الصعبة، وفقدان الكثيرين لأعمالهم وفرص رزقهم وبعض العائلات لم تعد قادرة على التموين دفعة واحدة، فتلجأ إلى شراء ما تحتاجه عند الضرورة القصوى.”
ويضيف صمادي أنّ أغلى الأصناف في السوق تبقى الصنوبر وزيت الزيتون، إلا أنّ ارتفاع أسعارهما لا يشكّل عائقاً أمام بعض المواطنين الذين يعتبرونهما أساسيين مهما بلغت تكلفتهما.
وهكذا، يقترب عدّاد الصيف من الانتهاء، ويحلّ من بعده الشتاء الذي يمثل باكورة الإقبال على المونة ما سيكشف حجم التحديات التي تواجهها، بصفتها ملجأًا اقتصادياً لبعض العائلات وإرثاً متجذراً في الذاكرة، فهل ستصمد أم سيُحيلها الواقع الاقتصادي المُتردي إلى مجرد طقس فلكلوري موسمي؟