اخر الاخبارمقالات وقضاياهام

بيان الحكومة حول خطة نزع السلاح: إدارة مؤقتة للمخاطر من دون حلول جذرية

علي حيدر

لم يكن البيان الصادر عن الحكومة اللبنانية، الجمعة الماضي، بشأن خطة الجيش لنزع سلاح حزب الله مجرّد إجراء بروتوكولي أو محاولة لتجاوز أزمة سياسية عابرة، بل جاء ليكشف عمق التناقضات البنيوية التي تهيمن على الكيان اللبناني منذ نشأته، وتتحكّم في مسارات حاضره ومستقبله. فهذا الكيان، الذي وُلد على قاعدة التوازنات الهشّة واستمرّ بفعل التدخلات الإقليمية والتسويات الدولية، يجد نفسه اليوم أمام معضلة لا تختزل في لحظة سياسية آنية، بل تنفتح على سؤال وجوده ذاته، ودوره، ووظيفته.

فلبنان ليس دولة طبيعية تملك قرارها الحر في صياغة خياراتها الكبرى، بل هو فضاء مشرّع على الخارج بقدر ما هو مسرح لصراعات الداخل. وفي هذا السياق، يغدو بيان مجلس الوزراء مرآةً تعكس شبكة التوازنات والتحالفات، وتعيد إنتاج المأزق بدل أن تفتح أفقاً للحل. وانطلاقاً من ذلك، تتبدّى أمام لبنان جملة من المخاطر لا تقتصر على البعد السياسي الآني، بل تتجاوزها إلى تهديد بنية الدولة نفسها.

المخاطر الكامنة
على الصعيد الداخلي، يكمن التهديد الأكبر في احتمال أن تنقلب الحكومة على بيانها، وتُعيد إحياء خطوط التصدع التي تهدّد الوحدة الوطنية. فالحديث عن نزع السلاح ليس نقاشاً تقنياً، بل نقاش وجودي تتقاطع فيه الهويات والانتماءات، وتتصادم عنده رؤى متناقضة لمفهوم الدولة وأمنها. ومحاولة فرض النزع بالقوة أو وفق جدول زمني ضاغط قد تتحوّل إلى صاعق يشعل الشارع، ويهدّد بانقسام الدولة ومؤسساتها.

أما على المستوى الخارجي، فإن المخاطر تبدو أشد تعقيداً، إذ يفتح البيان الباب أمام ضغوط أميركية وإسرائيلية وسعودية متصاعدة، لا تنظر إلى لبنان إلا كساحة اختبار لإعادة صياغة موازين القوى الإقليمية.

ويبقى الخطر الأعمق في أن يظل لبنان، كما كان دائماً، عالقاً في دائرة التأجيل لا الحل، في ظل تسوية مرحلية تفتقر إلى القدرة على حسم التناقض الجوهري بين مطلب نزع السلاح بوصفه شرطاً خارجياً، وبين الحاجة إليه كقوة دفاعية تحمي الكيان.

الخيارات الاستراتيجية
في مواجهة هذه التعقيدات، يجد لبنان نفسه أمام مجموعة من الخيارات التي لا ترسم حلولاً نهائية بقدر ما تحدّد آليات للتأقلم وإدارة الأزمة.

فبيان الحكومة، في جوهره، يمثّل أداة لإدارة المخاطر لا وسيلة لحسمها. وهو إذ نجح في منع انهيار الحكومة واحتواء التجاذبات السياسية، ومنح الاقتصاد المتهالك مساحة محدودة للتنفس. غير أن هذه الهدنة الداخلية التي وفّرها، تبقى هشّة، لأنها قائمة على تجميد التناقضات بدل معالجتها.

يفتح البيان الباب أمام ضغوط أميركية وإسرائيلية وسعودية لإعادة صياغة موازين القوى الإقليمية

وعلى المستوى الدفاعي، سعى البيان إلى تجنيب الجيش اللبناني الدخول في مواجهة مباشرة مع المقاومة، وهو خيار حكيم ضمن منطق إدارة المخاطر، لأن أي انزلاق في هذا الاتجاه سيكون مدمّراً عسكريًا وسياسيًا. ولذلك، ربطت الخطة التنفيذ بالتزام إسرائيلي بالاتفاقات، لتُعيد الكرة إلى ملعب الخارج وتُبعد شبح الصدام الداخلي، ولو مؤقتاً.

على الصعيد التفاوضي، منح البيان الحكومة اللبنانية فرصة لتقديم نفسها كطرف ملتزم بالاتفاقات الدولية، في مقابل إسرائيل التي تواصل خرقها بصورة منهجية.

هذه الورقة، إذا ما أُحسن توظيفها، يمكن أن تتحوّل إلى أداة ضغط على المجتمع الدولي لدفع إسرائيل نحو الانسحاب من الأراضي المحتلة ووقف اعتداءاتها. غير أنّ هذا الخيار يظل مشروطاً بمدى توافر الإرادة السياسية اللبنانية، وهي إرادة غالباً ما تُكبّلها الحسابات الإقليمية والضغوط الخارجية.

موقع البيان في الاستراتيجية الإسرائيلية
تنظر إسرائيل إلى سلاح حزب الله على أنّه تهديد مباشر لأمنها وعقبة أمام استراتيجيتها العدوانية والتوسعية، لا يمكن التعايش معه. ورغم كل الحروب والاعتداءات، لم تنجح إسرائيل في تدميره، بل بقي عنصراً رادعاً حال دون أي مغامرة لاحتلال الجنوب مجدداً. لذلك، تشكّل أي محاولة لبنانية لتثبيت صيغة داخلية تحافظ على هذا السلاح تحدياً مباشراً لاستراتيجيتها.

وفي ضوء العقيدة الأمنية الجديدة التي أعلنها قادة الجيش الإسرائيلي بعد «طوفان الأقصى»، والمبنية على مفهوم «تفوّق ديناميكي يُصان عبر هجوم متواصل» كما عبر رئيس أركان جيش العدو إيال زامير، يُنظر إلى أي التزام لبناني بالاتفاقات على أنّه عائق يجب تجاوزه. وهذا ما يفسّر استمرار الاعتداءات الإسرائيلية واحتلال المزيد من النقاط على الحدود اللبنانية.

إذا ما نظرنا إلى البيان من زاوية أوسع، يمكن استخلاص ثلاثة أبعاد رئيسية:
– إدارة التناقض. إذ لم يحلّ البيان الصراع بين مطلب نزع السلاح وواقع الحاجة إليه، بل قام بتأجيله إلى أجل غير مسمّى.
– تجميد الأزمة عبر صياغة منطقة رمادية تسمح بأن يكون الجميع راضين جزئياً، من دون أن تتغيّر الوقائع الميدانية.
– توسيع الشرعية عبر تقديم لبنان كطرف ملتزم بالقانون الدولي، وإن كان من غير المتوقع أن يؤدي هذا الالتزام بمفرده، في ظل الدعم الأميركي والغربي لإسرائيل، إلى نتائج ملموسة.
في المحصلة، يمثّل البيان الوزاري نموذجاً مكثفاً لآليات إدارة الأزمات في لبنان: فهو يؤجل الانفجار ولكنه لا يمنع وقوعه، ويمنح البلاد فسحة من التنفس ولكنه لا يعالج جوهر الأزمة. إنه أشبه بجسر مؤقت فوق نهر هائج، قد يُمكّن العابرين من الوصول إلى الضفة الأخرى، ولكنه يبقى مهدّداً بالانهيار عند أول فيضان.

الاخبار

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى