لماذا الخيار دائماً ردم البحر؟

ماهر سلامة
تعاملت الدولة بشكل عشوائي مع مسألة الردم. بدأ الأمر في التقديرات المختلفة لكمية الردم الناتجة من العدوان الإسرائيلي والاختلافات في فترات الاحتساب ومنهجياتها أيضاً، ثم سرعان ما انتقل الأمر إلى آليات استخدامه، إذ كان خيار السلطة الأول ردم البحر لتكرار تجربة 2006 من دون أي دراسة للخيارات المتاحة مع أنها قد تكون علمية وذات جدوى بيئية أكثر، وتُسهم في تقليص أكلاف الإنشاءات والإعمار.
يعدّ حجم الدمار والردم الناتج منه معلومات أساسية للتخطيط لما بعد انتهاء العدوان.
يتيح الأمر التوصّل إلى مجموعة من القرارات المتصلة بسرعة رفع الردم وسلامة هذه العملية بيئياً، كما يضمن أن تكون مجدية اقتصادياً. يقول المهندس رياض الأسعد إن «أول الخيط بالنسبة إلى ملف إعادة الإعمار كله هو تقدير حجم الردم، فتقدير حجم الردم يأخذنا إلى تقدير حجم المباني المدمّرة كلياً وجزئياً، وهو ما يوصلنا إلى كلفة إعادة الإعمار، والأهم من ذلك من هي الجهة القادرة على هذا الأمر»
. لكن الواقع أنه كانت هناك تقديرات مختلفة للدمار وكميات الردم الناتجة منه إلى جانب غياب منهجية موحّدة للاحتساب. «معظم التقديرات الموجودة أتت عبر المسح الجوي، والتقديرات الهندسية لعدد المباني المتضررة وعدد الطوابق فيها وما يمكن أن ينتج منها من ردم، ولكن هناك تصحيحات، مثل إضافة حجم الشرفات الموجودة وعددها على سبيل المثال، وهي لا تلغي الحسابات الهندسية، بل تجعلها غير دقيقة، إنما لم يؤخذ ذلك في الحسبان» بحسب الأسعد.
ومن التفاصيل المهمة أيضاً، معرفة ماذا تحتوي المخلفات. إذ إن هذه المعلومات مهمّة للتخطيط لمرحلة معالجة المخلفات والتصرّف فيها لاحقاً. بالنسبة إلى الأسعد كان لافتاً «حديث المعنيين عن تلوث المخلفات عبر المعادن الثقيلة أو اليورانيوم، من أجل زيادة الغموض في كلفة معالجة الردم».
هكذا انتقلنا من مرحلة تعدّد منهجيات الحساب، إلى عشوائية التنفيذ مع سيطرة فكرة واحدة هي: «إعادة تجربة 2006 عبر جمع الردم في مكب الكوستا برافا ثم ردم البحر فيه بناء على اقتراح متعهد لإنشاء خلايا جديدة في المطمر» وفق الأسعد. ويشير أيضاً إلى أن نطاق هذه الهيمنة اتسع ليشمل «استخدام الردم لتوسيع مرفأ صور، وغيره من الاقتراحات المماثلة، إلا أن هذا كله غير مبني على أي أساس علمي.
رأينا أن العمل بهذه الطريقة خطأ، وهو إعادة لما كانوا يفعلونه في السابق». وما اختلف بين التجربة الحالية وتجربة 2006، أن آلية التسعير التي لم توضع، بحسب الأسعد، على أساس علمي أيضاً، اعتمدت على التسعيرة التي اتُخذت سنة 2006 (10 دولارات للمتر المربّع)، ولكن هذه المرّة قررت الدولة أن تعطي المقاولين حقّ استخراج الحديد الموجود مقابل خفض السعر.
ركام الحرب لا يعاد
تدويره بسبب غياب
تخطيط الدولة
بالنسبة إلى الأسعد، هناك حلول مختلفة عن ردم البحر الذي يتطلب رفع الركام ثم نقله إلى مكبات وسيطة تمهيداً لتحويله إلى مواد قابلة للردم. ففي هذه الآلية المتبعة، يمثّل عنصر النقل الكلفة الأهم من أصل الكلفة الإجمالية. لذا، هناك مقاربتان:
– الأولى، هي الشكل المركزي، إذ يُجمع الردم في نقطة واحدة يتم معالجة المخلفات فيها وإعادة تدويرها. وهذا الشكل لا يحل مشكلة كلفة النقل، لأن هناك حاجة إلى نقل الردم إلى مكان مركزي في كل الأحوال.
– الثانية، هي لا مركزية، إذ يمكن إنشاء مراكز معالجة للردم لكل مجموع من القرى في الجنوب. وهذا الشكل يسهم في حل مشكلة كلفة النقل، لأن المعالجة تكون في أماكن قريبة من مواقع رفع الركام.
فبدلاً من التكلّف على نقل هذا الردم، بحسب الأسعد، يمكن أن تستثمر الدولة في إنشاء مراكز معالجة في مختلف المناطق، وبهذه الطريقة تخفّف بشكل كبير من كلفة النقل، كما تُسهم في إنتاج مواد أولية إسمنتية معاد تدويرها يمكن الاستفادة منها في ملفات مختلفة.
وهناك تجارب عملية على هذا الأمر خلال عمليات رفع الردم الحالية. فبحسب الرئيس السابق لاتحاد بلديات بنت جبيل رضا عاشور، بعض البلديات تعاونت مع المتعهدين على قاعدة الاستفادة الثنائية. إذ اتفقت بعض البلديات مع المتعهدين على استخدام الردم في وضع الأساس لطرقات ترابية – زراعية، من أجل تزفيتها، وأحد هذه الأمثلة هي بلدة شقرا، طبعاً بعد استخراج الحديد والمعادن الأخرى. كذلك اتفقت بلديات أخرى مع المتعهدين لجمع الردم في القرى بهدف استخدامها لاحقاً في استخدامات متعددة.
المشكلة أن السلطة المركزية، أي الحكومة، لم تقم بأي جهد في هذا الاتجاه لتزخيم الاستفادة القصوى من الردم. لكن تجربة 2006، بحسب عاشور، كانت مختلفة، إذ قامت بلدة شقرا، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، بشراء كسارة لمعالجة الردم وتسكيره لاستخدامه بشكل أوسع. ويمكن تعميم هذه التجربة على نطاق أوسع. وبحسب رياض الأسعد، فإن «الفكرة الأساسية هي في معالجة المخلّفات الباطونية، وهي عبارة عن بحص ورمل وبودرة وإسمنت، وهي مواد يمكن تدويرها عبر مراكز معالجة وتدوير من أجل إعادة استخدامها في مختلف الصناعات الإسمنتية، مثل حجار الباطون والزفت.
ويعزّز هذا المسار، تقريرٌ صادرٌ عن مركز الحفاظ على الطبيعة في الجامعة الأميركية بعنوان «نحو يوم مستدام بعد الحرب: إدارة أنقاض الهدم في أعقاب النزاع اللبناني عام 2024». وفيه تُذكر الطرق المختلفة التي يمكن أن يُستخدم فيها الردم بعد معالجته على النحو الآتي:
1- مواد البناء: إعادة تدوير الركام (الحجارة، الباطون، الطوب) لاستخدامه في إنتاج البلوك (masonry blocks) أو كمواد ردميات وأساسية للطرقات.
2- الأشغال العامة: استخدام الركام المعاد تدويره كبديل للحصى والبحص في مشاريع البنية التحتية والطرق.
3- المعادن: فرز المعادن (حديد، ألمنيوم…) وإعادة صهرها أو تصديرها للاستعمال الصناعي.
4- إعادة تأهيل المقالع: توظيف المواد غير القابلة لإعادة التدوير في ردم المقالع المهجورة ومعالجة الأضرار البيئية القديمة.
هذه الاستخدامات تهدف إلى تحويل الركام من عبء بيئي وصحي إلى مورد اقتصادي واجتماعي ضمن عملية إعادة الإعمار. لكن إدارة هذه العملية بشكل فعّال، تحتاج إلى الدولة والسلطة المركزية. فالبلديات تستطيع أن تعمل على نطاقها فقط وبالاتفاق مع المتعهدين، ولكن على الصعيد الكلّي، إن مثل هذا التخطيط يحتاج إلى الدولة. وبحسب التقرير، فإن الدولة تحتاج إلى اعتماد رسمي لنهج «الدورة المغلقة» (Closed-loop recycling) إذ يُعاد فرز وتنظيف وإعادة استخدام الركام في مواد البناء والأشغال العامة.
وهذا النهج يعني إعادة استخدام الردم ومخلفات البناء بعد فرزها ومعالجتها لإنتاج مواد جديدة تُستعمل في البناء والأشغال العامة، بدلاً من التخلص منها في المطامر.
وبهذا تتحول النفايات إلى موارد يُعاد إدخالها في دورة الإنتاج بشكل مستدام. وهذا الأمر يتطلب من الدولة، بحسب التقرير، إنشاء أو تسليم المهمة لجهة مركزية منسقة (وزارة البيئة مثلاً) لوضع الإستراتيجيات وتوزيع الأدوار بين الوزارات والبلديات والقطاع الخاص. كما يحتاج الأمر إلى إصدار قوانين واضحة تشمل: منع الطمر العشوائي، فرض حصص من المواد المعاد تدويرها في البناء، تحديث كودات البناء لتضمين الاستدامة، وتطبيق آليات مساءلة.
بشكل عام، لا يوجد أي خطوة من قبل الدولة تدل على وجود أي نوع من التخطيط في هذا السياق. فالأمر متروك للعشوائية. في بيروت يتم التعامل مع المخلفات عبر ردم مطمر الكوستا برافا، أما في الجنوب، فالأمر أكثر عشوائية، وليس هناك أي توجه واضح. لكن الفكرة هي أن فشل الحكومة في وضع مخطط لرفع الردم، هو نذير شؤم بشأن قدرتها على وضع مخطط شامل لإعادة الإعمار.