البقاع على مشارف أزمة مياه حادة ونبع شمسين جاف تماماً

لوسي بارسخيان
لبنان ليس بخير مائياً… وليس انخفاض كميات المتساقطات لهذا العام هو السبب الوحيد، وإنما هي السياسات المائية العامة التي أهملت الاستثمار في الثروة الجوفية المختزنة، وقدّمت السدود كأولوية في مشاريعها غير المجدية، والمضرة بالبيئة. كما أن السبب أداء إداري أنفق أموالاً طائلة على شبكات مياه وخزانات لم تُروَ ولو بقطرة ماء. بالإضافة إلى التعديات على مجاري المياه وينابيعها، وإلى فقدان التوازن في موازنات مؤسسات المياه، التي تعاني من تهرب المواطنين من دفع فواتيرهم. وهذه كلها عوامل تتشابك مع شحّ المتساقطات لهذا العام، مخلّفة تداعياتها الكبرى في المجتمعات الهشة، حيث القدرة على الوصول إلى مصادر المياه البديلة أصعب وأكثر كلفة على المواطنين.
منذ أسابيع تشكو منطقة المكاوي الواقعة على أطراف بلدة برالياس البقاعية من أزمة مياه حادّة، تنذر المؤشرات المائية، إلى إمكانية تمدّدها لبلدات أخرى تتغذى من نبع شمسين. فمياه النبع الجارية جفّت باكراً هذا العام، أما البدائل، فيبدو أنها حتى اللحظة غير متوفّرة.
يؤمّن نبع شمسين، وفقاً لمصدر مسؤول في مؤسسة مياه البقاع، نحو 22 ألف متر مكعب من المياه، تروي البلدات المستريحة بمحاذاة سلسلة جبال لبنان الشرقية، بدءاً من دير الغزال مروراً بكفرزبد وصولاً إلى برالياس فمجدل عنجر والصويري، لتمتد على خط قرى البقاع الغربي من المرج إلى الخيارة. ولكن الكميات السطحية لهذه المياه تراجعت كثيراً هذا العام، وصار التقنين مشكلة مشتركة لها جميعها.
حي المكاوي: بين تقنين المياه وتلوّث البدائل
وعليه، بينما كانت قرقعة الماكينات الانتخابية تملأ الأجواء في بلدة برالياس، ارتفعت صرخة حيها الطرفي، الذي شهد توسعاً سكانياً عشوائياً وسريعاً في السنوات الأخيرة، من تقنين قاس للمياه مفروض عليها، وصار التعايش معه صعباً جداً.
وفقاً لمصدر مسؤول، تنبهت مؤسسة مياه البقاع لهذه المشكلة باكراً. وبسبب صعوبة تغذية المكاوي بالشكل اللازم من مياه شمسين، وُضعت منذ أعوام خطة دعم بالتعاون مع اليونيسف، قضت بإنشاء أربع آبار حُفرت في جبيلة عين البيضا في منطقة كفرزبد. ولكن مياه الآبار الملوثة أوقف استخدامها فوراً. وهذا ما أبقى الحي أسير موقعه الجغرافي الذي يجعل مياه شمسين تصل اليه متأخرة، وبعد أن تؤمن حصة كل من الأحياء التي تسبقه، فيكون نصيبه منها ضئيل جداً.
اتهامات بالتلاعب وواقع كهربائي معقّد يُفاقمان الأزمة
يشكّك الأهالي بأن مياههم تُستنزف أو تُحوَّل باتجاه الحقول الزراعية المحيطة، حيث يؤدي الجفاف إلى استغلال أي مصدر للمياه، ومن بينها المياه المخصصة للشفة. لا يتردد البعض أيضاً في الحديث عن تواطؤ، يستفيد منه أصحاب الصهاريج، عبر افتعال أعطال لزيادة الطلب ورفع الأسعار، أو لاستجرار أموال الدعم الذي تقدّمه “اليونيسف” لمؤسسة المياه.
لكن الحقيقة، المنقولة عن المعنيين داخل المؤسسة، في مكان آخر تماماً…
برأيهم أن الآبار الأربع التي استحدثت، كان يمكن أن تقدم حلاً مستداماً ولفترة زمنية طويلة، لولا أن عيناتها بينت تلوث المياه الشديد حتى مع استخدام الكلور لتعقيمها. وعليه انحصرت الخيارات مجدداً بنبع شمسين.
في المقابل فرض مشروع تغذية بلدات برالياس، المرج، الروضة والصويري، من محطة ضخ واحدة على نبع شمسين، برنامجاً لتوزيع المياه بينها، يقضي باستفادة برالياس من 48 ساعة تغذية بمقابل تقنين لـ 24 ساعة. لم يكن الأمر سيتسبب بمشكلة، لولا أن توفر المياه خلال الساعات المذكورة، يبقى مرتبطاً بتوفر الكهرباء أيضاً. وبما أن برالياس تتغذى من مؤسسة كهرباء لبنان، فإن انقطاع الكهرباء المتكرر والفجائي خلّف متغيرات كثيرة في برنامج وصول المياه إلى الأحياء، إلى حد حرمان المكاوي منها في معظم الأحيان.
شبكة يستنزفها النزوح السوري أيضاً
وفقاً لتقاطع معلومات عدة مصادر معنية في المؤسسة أيضاً، فإن تعديات كبيرة على الشبكة من قبل وحدات سكنية مختلفة في برالياس، تسببت بخلل في توزيع المياه على الأحياء، بالإضافة إلى ضغط الكثافة السكانية التي شهدتها المنطقة نتيجة للنزوح السوري. وتشرح المصادر أن الشبكة التي أُنشئت في العام 2011 أخذت بعين الاعتبار التطور السكاني للمنطقة على مدى ثلاثين سنة، ولكن الشبكة بلغت ذروة قدرتها على الاستيعاب بسبب الازدحام الذي تسبب به النزوح السوري، فاستنزفت قدراتها بشكل كلي، من دون أن يكون للمؤسسة بدل مالي يسهم في توسعتها، خصوصاً أن معظم المستفيدين من المياه، وحتى من الوحدات السكنية القديمة، لا يسددون الاشتراكات للمؤسسة، وجزء كبير من هذه الوحدات مربوط بها بشكل غير شرعي. ولولا حصول المؤسسة على الدعم من الهيئات الداعمة، وخصوصاً اليونيسف، لكانت اليوم عاجزة حتى عن تسديد رواتب موظفيها.
إذاً، المشكلة متشابكة في هذه المنطقة حيث لا خطط استباقية للأزمات، وهذا، وفقاً للمصدر، يهدد بتفاقم الأزمة، متوقعاً ظهورها بشكل أكبر مع انخفاض مستوى المياه في الآبار، ما سيهدد مياه الشرب والريّ في آنٍ معاً.
حتى ذاكرة الماء بدأت تجفّ
هذا الواقع يبدو مقلقاً أيضاً للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، والتي نبهت المزارعين من انخفاض تاريخي سجّله نبع شمسين، داعيةً إلى الحفاظ على حقوق المياه ومنع تفاقم الشح المائي، ومحذّرة من أن الاستنزاف الجائر يُعرض الجميع للخطر. وبالتالي، دعت إلى عدالة في توزيع المياه تُحافظ على استقرار المجتمع الزراعي، لأن المحاصيل الصحية تبدأ بمياه نظيفة وقنوات نظيفة.
على الأرض، تؤكد المشاهدات العينية ما يُحكى عن التراجع الكبير في منسوب مياه نبع شمسين الجارية، مثلها مثل سائر الينابيع التي كانت تغذي أهالي البقاع، من مرتفعات زحلة وصولاً إلى سهلها المنخفض.
ففي العادة، كانت برك المياه التي تتجمع قرب النبع وجهة لأطفال القرى المجاورة، يلعبون فيها تحت شمس تموز، كما كانت العرائس يحضرن إلى المكان في مواسم الزواج لغسل الصوف، وفق تقليد تتبعه المجتمعات الحضرية المتواجدة في البقاع. تقلص حجم تلك البرك بشكل كبير، وحلّت مكانها أعشاب استلقى عليها أحد الرعاة مع قطيعه، تاركاً له أن يروي عطشه من المياه الراكدة المتبقية.
على الجانب الآخر من الطريق، التقينا بصهريج مياه، كان صاحبه يملأه من مياه بئر محفورة في المكان، بعد أن اختفى كل أثر للمياه السطحية التي كانت تملأ هذه الخزانات.
أزمة إدارة لا ندرة… والجبال خزّاننا الحقيقي
هذه المشهدية على رغم قساوتها، لا تبدو مقلقة للخبير الهيدرولوجي الدكتور سمير زعاطيطي. فبرأيه، إن تراجع المتساقطات لا يعني أن لبنان تحوّل إلى صحراء، إذ إن المخازن الكاربوناتية الكارستية في جبالنا تحمل مخزوناً كبيراً للمياه، والدراسات تقدم إثباتات كثيرة على ذلك برأيه، حتى لو لم يتم تحديثها منذ زمن بعيد.
وعليه، يرى زعاطيطي أن مشكلتنا ليست في تراجع المتساقطات، خصوصاً أن العلماء الذين قاسوا كمية المتساقطات على مدى ستين سنة متواصلة، أظهروا أن كمية المتساقطات ثابتة تقريباً، وهي تشهد في بعض السنوات تراجعاً وفي أخرى ارتفاعاً، بينما لا تصحّر في لبنان، وإنما ارتفاع بدرجات الحرارة بمعدل درجتين ونصف بسبب الاحتباس الحراري العالمي.
إنما المشكلة برأيه في كميات المياه الكبيرة التي تهدر مع الأموال في مشاريع غير مجدية مثل السدود. ويصر زعاطيطي أن مخزون المياه في الطبقات والتفرعات والفجوات الموجودة في جبالنا تجعلنا من أغنى البلدان بالمياه. ويقول ذلك بالاستناد إلى دراسة للبعثة العلمية الجيولوجية الفرنسية وضعت بين العامين 1928 و 1955، وخلصت لكون “لبنان بلد المياه”. كما يستشهد بالمهندس إبراهيم عبد العال، أبو الليطاني، الذي ظلّ يعتبر جبالنا المخزن الحقيقي للمياه، وبالبنك الدولي الذي أشار إلى أن لبنان وتركيا هما أغنى بلدين في الشرق الأوسط بالمياه، حيث تفوق كمياتها حاجات السكان.
ويلفت زعاطيطي إلى تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية الذي صدر في نيويورك في العام 1970، وتحدّث عن معدل لكمية المتساقطات في لبنان (ثلج وشتاء) حيث يصل إلى 10 مليارات ليتر مكعب سنوياً. مشيراً إلى أن هذه الكميات تختزن في الطبقات الجوراسية، ولا يتحرك منها سنوياً سوى ثلاثة مليارات ليتر مكعب، وهي كميات غير مستغلة تذهب بمعظمها إلى البحر، فيما كمية المياه السطحية من الأنهار والينابيع تُقدَّر بـ 1.3 مليار ليتر مكعب.
سياسة السدود: هدر مالي وأضرار بيئية ولا حلول حقيقية
يخلص زعاطيطي إلى أن لبنان لا يزال بلداً غنياً بالمخزون الجوفي، ولكن “مشكلتنا الكبرى”، برأيه، هي “النقص في التخطيط”. معتبراً أيضاً أننا “نعاني من سياسة مائية سيئة، وسوء إدارة للثروة المائية، تبلورت بشكل لئيم منذ تسلّم “التيار الوطني الحرّ” وزارة الطاقة وتمسك بسياسة السدود، ووضع الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه على أساسها، فخرّبت البيئة وأُنفقت عليها أموال طائلة ولم تؤمن النتائج المرجوة”.
ولذلك، يرى زعاطيطي أن هذه الخطط والسياسة يجب أن تتوقف، ويجب وضع سياسة جديدة، تقوم على إدارة لامركزية لقطاع المياه، تسمح بحفر الأبار في كل بلدة وفقاً لاحتياجاتها، على أن تدار من خلال البلديات والسلطات المحلية. مستنداً إلى خبرته في دراسة حفر بعض الأبار في الجنوب، ليؤكد على أن الحلول الموضعية الدقيقة تشكل الحل الأنجز لمشكلة المياه في لبنان، ومؤكداً أن هذا النموذج أثبت أيضاً فعاليته بالكثير من الدول المتطورة ولا سيما في أوروبا، بينما نحن نهرب برأيه إلى مشاريع شاملة، للسرقة والنهب.
ويختم زعاطيطي رداً على سؤال حول مشكلة الثلوث التي تظهر عند حفر بعض الأبار، كما حصل في منطقة البقاع، فأشار إلى مسؤولية البلديات والدولة عموماً في منع البناء فوق الينابيع.
كلام زعاطيطي، وإن كان مطمئناً، يحتاج إلى تحرك سريع لتغيير السياسات والنُظُم المرتبطة بها. وهذا قد يستغرق وقتاً، بينما لبنان بدأ يعاني فعلاً من شح مصادره الحالية للمياه، وهذا ما سيفرض تقنيناً باستخدامات المياه على مختلف أراضيه.
ووفقاً لمصدر معني في مؤسسة مياه البقاع، فإنه خلال أسبوعين سيكون نبع شمسين قد توقف كلياً، وبالتالي، فإن الأزمة التي يشعر بها الناس في الآونة الأخيرة ستصبح شاملة، وصيف لبنان سيدفع ثمن كل الإهمال في اتخاذ الإجراءات الاحترازية، على أمل أن يتحرّك المعنيون في المرحلة المقبلة.
نداء الوطن