من أدوات شطب الودائع: آلية لتصنيف «الحسابات المشبوهة»

ماهر سلامة
خلال لقاء بين حاكم مصرف لبنان كريم سعيد وجمعية المصارف بحضور المستشارين الماليين للطرفين «روتشيلد» و«أنكورا»، وفي سياق عرض مشروع الحاكم لقانون الفجوة المالية وأكلافه وتوزيعها، عرضت ورقة تتضمن معايير تحديد وتصنيف الحسابات المصرفية «المشبوهة» والتي ستؤدي إلى شطب أكثر من 10 مليارات دولار من أصل ودائع إجمالية بقيمة 84 مليار دولار. هذه المعايير لا تستند إلى مفهوم ضيّق يستهدف حصراً الأموال الناتجة من فساد مباشر أو سرقات أو جرائم واضحة، بل مبنية على توجيهات مجموعة العمل المالي (FATF) بما تحمله من تعريفات فضفاضة لمخاطر تبييض الأموال وتمويل الأنشطة غير المشروعة.
تقترح الورقة إنشاء نظام تدقيق قائم على المخاطر (Risk-Based Approach) يُلزم المصارف التجارية بإجراء تقييم شامل للمودعين الراغبين في الاستفادة من برامج حماية الودائع. وإطار هذا التقييم هو عبارة عن «علامة مشروعية» من 10 علامات، بالاستناد إلى الآتي:
– نوع المودِع (إذا كان من أصحاب المخاطر المرتفعة أم لا)، وحجم الوديعة (خصوصاً الودائع الكبيرة التي تزيد على 100 ألف دولار و500 ألف دولار).
– مدى تطابق النشاط المصرفي مع الوضع المهني والدخل المصرّح عنه.
– سلوك المودِع لناحية التعاون مع متطلبات «اعرف عميلك» (KYC).
– وجود أدلّة على دفع الضرائب أو التصريح الضريبي.
هذه المعايير الرامية إلى تحديد وتصنيف الحسابات «المشبوهة» تأتي في سياق تطبيق قانوني «الفجوة المالية واسترداد الودائع (FSDR)» و«السرية المصرفية مع تعديلاته التي تسمح برفعها». وهي أيضاً تستند بشكل أساسي إلى مسألة الامتثال وقاعدتها أسئلة «اعرف عميلك» التي يعمل مصرف لبنان على تحديثها الآن بما يتلاءم مع متطلبات صندوق النقد الدولي و«فاتف». وعلى هذا الأساس، سيتم إلزام أصحاب الودائع بتقديم مستندات رسمية من وزارة المال تثبت الوضع الضريبي ومصدر الأموال، سواء أكانوا مقيمين في لبنان أم في الخارج، إضافة إلى معلومات تفصيلية عن الشركات والجهات الاعتبارية التي لها علاقة بالحسابات المصرفية، بما يشمل المستفيد الحقيقي (Beneficial Owner) وسلسلة الملكية.
أما الحالات المصنّفة عالية الخطورة وفق التعريف الوارد في الورقة، فهي تشخّص الأشخاص المعرضين سياسياً، أي السياسيين وحلقاتهم الضيقة، الموظفين العموميين ذوي الودائع الكبيرة، المودعين غير المقيمين، شركات «الأوفشور»، والأنشطة التي تعتمد بشكل كثيف على النقد مثل المطاعم ومحطات الوقود والعقارات والسيارات الفاخرة.
ولكن الأمر لا يتعلق بهم بشكل فردي، إذ تشير الورقة إلى حالات نموذجية تُصنَّف عالية الخطورة، منها:
– استخدام هياكل قانونية معقّدة أو شركات أوفشور لإخفاء الملكية.
– استخدام «واجهات» أو حسابات بأسماء مقرّبين.
– عدم تناسب حجم الإيداعات مع النشاط أو التصاريح الضريبية.
– تبييض أموال عبر قطاعات نقدية أو عبر فواتير مضخّمة.
– استخدام الجمعيات أو المؤسسات الدينية كقنوات لتجميع الأموال.
إذاً، تصنيف الحسابات المصرفية باعتبارها «مشبوهة»، يتجاوز أساس الفكرة القائمة على ملاحقة الأموال الفاسدة، بل يظهر بوصفه أداة تقنية تُستخدم لتقليص حجم الفجوة المالية في النظام المصرفي. وهذا ما يرفع احتمالات تحوّل التحقّق من مصادر الأموال إلى أداة تهدف إلى التدقيق المالي في سياق تحقيق معايير مجموعة العمل المالي، وهي معايير تدخل فيها السياسة أيضاً. غير أن هذا الأمر يفتح الباب أمام إشكاليات حسّاسة، خصوصاً في بلد كلبنان، حيث تُدرج معايير FATF، في بعض الحالات، مؤسّسات وجمعيات وكيانات كاملة ضمن لوائح عالية المخاطر أو شبه سوداء لأسباب تتداخل فيها الاعتبارات السياسية مع الاعتبارات المالية، أكثر ما ترتبط بجرائم مثبتة كتبييض الأموال أو الفساد. ففي حال اعتمدت هذه المقاربة، من دون ضوابط واضحة أو تمييز دقيق بين معايير مجموعة العمل المالي السياسية والجرائم الفعلية، فإن الإجراءات قد تتحوّل من أداة تنظيم مالي إلى عامل توتير سياسي واقتصادي.
وفي آلية التنفيذ، تُمنح المصارف 3 أشهر لإجراء العناية الواجبة المعززة (EDD) لكل حساب مصرفي واتخاذ قرار أولي حول وضع الحسابات. وفي حال الشك، تُحال الملفات إلى وزارة المال (في القضايا الضريبية) أو هيئة التحقيق الخاصة التي تمنح مهلة ستة أشهر لاتخاذ القرار النهائي بشأن مشروعية الوديعة أو لعملية الإنقاذ من الداخل (bail-in). وفي حال عدم تقديم الإثباتات المطلوبة ضمن المهل، تُعتبر الوديعة غير مشروعة وتُحذف من سجلات المصارف ومصرف لبنان.
توزيع ودائع المصارف التجارية كما في 30 أيلول 2025 (مليار دولار)
تتضمّن الورقة التي عرضت في الاجتماع بين المصارف ومصرف لبنان، جدولاً يُظهر توزيع الودائع المصرفية حتى أيلول 2025، حيث تشكّل من ناحية القيمة ودائع الأفراد، بمن فيها الأفراد المقيمون والأجانب والودائع الحرة وموظفو القطاع العام والخاص، النسبة الأكبر، تليها الشركات غير المالية، مع تمييز فئات اعتُبرت عالية المخاطر وتحتاج إلى تدقيق معمّق. وبلغ إجمالي الودائع نحو 82.27 مليار دولار. وتستحوذ ودائع الأفراد المقيمين على الحصّة الأكبر، بقيمة 54.4 مليار دولار، تليها ودائع الأفراد غير المقيمين بنحو 18.27 مليار دولار، ما يعكس الوزن الكبير للرساميل العائدة للأشخاص خارج لبنان.
وعلى مستوى الكيانات الاقتصادية، تسجّل الشركات غير المالية ودائع بنحو 3.85 مليارات دولار، فيما توزّعت باقي الودائع الأصغر حجماً على شركات النفط والغاز، الشركات الدوائية والطبية، المؤسسات التعليمية والصحية الخاصة، والمنظمات غير الحكومية. ويُبرز الجدول كذلك وجود فئات تُعدّ عالية المخاطر من زاوية الامتثال، كالحسابات الائتمانية (Fiduciary Accounts)، الودائع العائدة لموظفي القطاع العام، والجمعيات والصناديق، وهي فئات مُشار إليها باعتبارها تتطلب تدقيقاً معمّقاً قبل البت بمشروعية ودائعها. ويعكس هذا التوزيع الأساس الكمي الذي ينطلق منه المقترح لتحديد نطاق الحسابات المستهدفة بإجراءات العناية الواجبة المعزّزة والتصعيد إلى السلطات المختصة.

الاخبار



