الجمّيزة ومار مخايل: سوليدير جديدة؟

خضر حسان
تقف المنازل الأثرية في منطقة الجمّيزة – مار مخايل، على بعد خطوات من تقرير المصير الحالك. لا تعرف المنازل وأصحابها، ماذا بعد التفجير والتصدّع والتحضّر للسقوط. أهناك قيامة أم طيٌّ لصفحة لم تعد مرغوبة؟
ليس سرّاً الحديث عن شراء العقارات المتضررة بفعل تفجير مرفأ بيروت. فالحداثة العمرانية بصبغتها اللبنانية الناشئة على ركوب الأزمات، تسارع لإبراز نفسها بصورة المنقذ الجمالي، في حين أنّ باطنها استغلالي صرف.
استغلال الأزمات
كثرة الحروب والانتكاسات التي شهدها لبنان، علَّمَت شريحة واسعة من السماسرة والمستثمرين، أساليب استفادة لا تعلّمها أقوى الجامعات. إذ يُبنى “العِلم” اللبناني على الجمع بين رؤوس الأموال المتعطّشة لقضم أي شيء، وبين سلطة سياسية امتهنت التضحية بالبشر والحجر، طوال 15 عاماً من الحرب الأهلية، التي شكّلت منعطفاً أساسياً في سجلّ الاستفادة العقارية.
توقّف القتال في العام 1991، التصق بعملية “إعادة الإعمار”. ويُخيَّل للمرء أن العملية تنطوي على تحقيق الازدهار للمناطق المتضررة، وخاصة في بيروت، بكل ما يحمله الازدهار من مؤشّرات.
العكس كان سيّد الموقف. فالازدهار جاء وفق تعريف المستفيدين فقط، ولم يكن الإعمار حقيقياً، بل اقتصر على الشكل، في بقعة جغرافية انتزعت من البَلَد وسطه، وبات يُعرَف باسم الشركة التي سيطرت عليه، وهي سوليدير.
وعلى شاكلة سوليدير، هَبَّ السماسرة للبحث عن فرص الاستفادة من تفجير مرفأ بيروت، لإعادة ترميم المشهد العمراني في الجمّيزة ومار مخايل، وفق رؤيتهم.
رفض البيع
حتى الآن، يرفض أصحاب العقارات والأبنية المتضررة بيع ممتلكاتهم. فعمر بعضها يسبق ولادة لبنان الكبير وولادة مفهوم الصفقات “السوليديرية” وإعمارها الزائف. ويصرّ أصحاب العقارات على ضرورة تحمّل الدولة مسؤوليتها في الترميم ومعالجة الأزمة، لتسريع عودة السكّان إلى منازلهم.
تأخّرت الدولة في تحرّكها. وعندما أعلنت مباشرة عملها في إحصاء الأضرار، اصطدم المتضررون ببيروقراطية لا متناهية، انعشت ذاكرتهم حول طريقة عمل الإدارات الرسمية المهترئة. وإلى حين وصول الدولة إلى مبتغاها، تكون المبادرات الفردية للمتربّصين بالعقارات الأثرية، قد قطعوا أشواطاً في ترتيب مصالحهم، والالتفاف على أوجاع الناس وحاجتهم. فمن يرغب البيع، فهم جاهزون للشراء، ومن لم يُرِد، فالبيروقراطية تتكفّل بتطويعه. لتميل الكفّة لصالح السماسرة، فلا أولويات لدى الدولة للعمل السريع. بل كل ما هو موجود، لا يتعدّى التخبّط غير الفعّال، الذي بدوره يسرق الوقت من عمر الأبنية الآيلة للسقوط.
رفض البيع هو الظاهر، لكن ما تحمله الأيام المقبلة، غير مضمون النتائج، ولا ذنب على المحتاج، وتحديداً مَن لا يملك إمكانية الترميم مادياً، أو تشييد بناء جديد.
تغيّر الواقع
المغريات الماديّة في زمن اقتصادي صعب، قد تتغلّب على الرغبة في الحفاظ على التراث والطابع العمراني لأي منطقة. فعندما كانت البلاد تتحضّر للخروج من زمن الحرب ودخول السِلم المترافق مع إعادة الإعمار، كان بيع العقارات في وسط بيروت مرفوضاً مِن قِبَل أصحابه. لكن التحديات الاقتصادية والضغط السياسي والأمني إلى حدٍّ ما، وعرقلة إعطاء الأذونات الخاصة بالترميم، وتعطيل وصول المساعدات، أجبَر الكثير من أصحاب الحقوق على بيع عقاراتهم، فتم إرضاخ من رفض البيع، وجرى سلخ وسط بيروت عن ماضيه ورمزيّته الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية.
واليوم يجري التحضير لنموذج عمراني جديد، يختلف بمعناه ومفهومه عن مشروع وسط بيروت بعد الحرب، لكنه لا يختلف بصِلاته مع ذلك الوسط، لناحية انفكاك هوية العمران الجديد عن هوية العمران التراثي الذي اشتهرت به المنطقة المنكوبة.
ورغم ما يتحضَّر سرّاً وعلانية، لن تكون الجمّيزة، تماماً، كجارتها سوليدير بطابعها التجاري. فلا المساحات الجغرافية تكفي، وليس هناك ما يُغري لتحضير الأرضية لجذب المستثمرين. فسوليدير لم تصمد أمام السياسات الاقتصادية لأربابها، فسقطت في فخ الركود. وعليه، سيحاول السماسرة تجنّب النموذج التجاري لسوليدير، والاتجاه نحو نموذج سكّاني.
وأمام هذا الواقع، لا يمكن إلاّ التأكيد على أن رغبة التطوير العمراني ليست جريمة، بل تصبح كذلك إذا جاءت على انقاض بيوت أثرية لم يلملم أصحابها ومستأجروها بعد، ثيابهم المبعثرة، ولم يمسحوا دماءهم عن الركام.
وتكبر الجريمة لتصبح مزدوجة، بفعل تقاعس الدولة التي لم تضع لغاية اللحظة خطّة، أو على الأقل، عناوين عريضة وأولويات للتعامل مع العقارات والمنازل في تلك المنطقة.
وفي جميع الأحوال، يجب إخراج العملية برمّتها، من بازار السمسرة العقارية، بحيث يكون الإلتزام بمبدأ الجمع بين البناء وهويته، شرطاً للترميم أو إعادة الإعمار. فلبنان ليس بحاجة إلى سوليدير جديدة.
المدن